عبدالغني خنجرمقالات

إلى كل أم بحرانية تواجه بصمود لحظات الوداع.. ألم وحسرة

عبد الغني خجر - الناطق باسم حركة (حق) - قم المقدسة
عبد الغني خجر – الناطق باسم حركة (حق) – قم المقدسة

 

ألهمتني مواقفُ أمهات المعتقلين في سجن جو، سيئ الصيت، لكتابة هذا المقال في مقاربةِ وسبْرٍ لذاكرة أليمة لم يحن بعد ذكر كلّ تفاصليها، وتفاصيل كلّ دمعةٍ سخينة رافقتها، وكلّ لحظةِ صبرٍ وصمودٍ وتوكّلٍ على الله، وأرجو أن تصل رسالتي، وأن تكون رسالةً يُراد بها وجه الله، وشحذ الهمم، نصرةً لهذا الشعب، ولكلّ أم تعاني قسوة النظام الخليفي – عديم الضمير – وتحترق شوقا لابنها السجين والمطارد، وإلى منْ عرج قسرا نحو عالم الفردوس.

الرابع من أكتوبر 2011 م كان يوماً مليئاً بالألم، ألم لم يتوقف وجعه حتّى الآن.
رائحة الدموع لازالت تلاحقني، وأظنها لن تفارقني أبداً.

يومها تلقيتُ خبراً مفاجئاً أرسِلَ لي عبر شبكة التواصل الاجتماعي (تويتر)، وفي بضع كلمات قصيرة: “عظّم الله أجرك، لقد ماتت والدتك”.
كنتُ وقتها مطارداً، بعيداً عن الأنظار، حيث تلاحقني وحوشُ جهاز الأمن الخليفيّ، وبعد أن صدر ضدّي حكمٌ غيابيّ بالسجن لمدة 15 سنة، عبر محاكمةٍ عسكريّة جائرة.

رغم أن المصاب والمصيبة هي من سنّة الحياة، ولا اعتراض على قضاء الله وقدره، إلا أنّ الخبر كان بالنسبة لي مشؤوماً. لقد سلّمت الأمرَ إلى الله، فكلّ الخلقِ منه وإليه، إلا أنّ سرّ الألم واستمراره حتّى اليوم، هو فراقي لأمي، ورحيلها عن الدّنيا، بينما لم أحظ بالعيش قربها في آخر أيّام حياتها.

لقد عانت أميّ معي – كما المئاتُ من الأمهات – سنواتٍ من الملاحقة، والفصل من العمل، والاعتقالات، والتعذيب، والنفيّ القسري، ومنذ انتفاضة التسعينات المباركة.
هذه الحالة التي مررتُ بها لاشكّ أنها تتكرّر، وتكرّرت سابقاً، مع المئات مع المطاردين والمغيبين في السّجون الخليفيّة، حيث العتمة الظالمة، وقسوة الجلاّد. فالمشهد يتكرر، وكلما تكرر؛ انفجرَ الجرحُ، لأعيش من جديد لحظات الفراق الصعبة.

لملمت نفسي وغادرت مخبأي.
همتُ دون اكتراث بالخطر، إلا أن القرارَ الصعب بالخروج، والتوجه نحو المقبرة كان حتمياً. وقتها، لا يمكن أن يثنيني عن ذلك شيء، علّي أرى وجه أمي لآخر مرة، وأناديها “أماه”، علها تسمعني، ولآخر مرة.
وصلتُ، ودخلت عليها. وجدتها مسجاةً وقد غطاها بالكامل كفنٌ أبيض كبياض قلبها، وقد شُدّ من كلّ أطرافه وتمّ عقده. طلبتُ فتحه، لأرى عيناها، إلا إنهما كانتا مغلقتين. ودّعتها ببضع كلمات: “في أمان الله، أمّاه لقد رحلتي شريفة”.
رحلتْ.. وبقيتُ أذكرها في عين كلّ أم تواجِه بصمود وصبر.

 

في معتقل جهاز الأمن الوطني.. إجرام الجلاد يوسف المناعي

 

من الأوقات الأكثر صعوبة على السّجين، هي تلك اللحظات التي يقابل فيها أهله بعد أيام طويلة من السجن الإنفرادي، والعزلة التامة. ويزيد هذا الموقف العاطفي الكبير، عندما يقابلهم المعتقلُ بعد وجباتِ التعذيب والإهانة والحرمان، وحيث يكون بمعية الجلاّين، وتحت سطوةِ مجموعةٍ من عناصر جهاز الأمن الوطني الذين نُزعت الرحمة من قلوبهم، وتفسخوا من كل قيم الإنسانية والدين والرجولة.
هكذا كانت أول زيارة لنا عندما اعتقلنا في صيف 2010 م، وتمّ عزلنا في سرداب تحت الأرض، ولأكثر من خمسة وأربعين يوما قبل أول زيارة.

أتذكر قبل الزيارة، وعندما قيل لنا أنه سوف تكون لكم زيارة، وقد تم تهديدنا من قِبل جلاوزة الجهاز لعدم الحديث عن أي تفاصيل تخص السجن، وما جرى لنا من تعذيبٍ ومعاملة مهينة.

عندما أخبرنا بأن ثمة زيارة قادمة، مرّرنا لبعضنا توصيةً من سماحة الشيخ محمد حبيب المقداد والدكتور عبد الجليل السنكيس، وكانت مهمةً جدا، وهي: “تماسكوا، وأظهروا الصمود أمام أهاليكم، لا يبكين أحد منكم أمام أشباه الرجال”.

فعلا أتى وقت الزيارة، وقد كانت زيارة يتعرض فيها الأهل لضغط كبير، حيث كانت أجواءٌ كلها إرهاب، ويُبعد أهل المعتقل عنه عدة أمتار، مع وقوف عدد من الضباط وعناصر جهاز الأمن الوطني المدنيين، ويتم تهديد الأهل قبل الدخول لغرفة الزيارة بأنها سيتعرضون للتنكيل وقطع الزيارة في حال تحدثوا عمّا يجري خارج جدران السجن، كما يتم تهديد المعتقل عدة مرات بالتعذيب – ولآخر لحظة – قبل أن يدخل غرفة الزيارة.

في أول زيارةٍ كنتُ ملتزماً بالتوصية والتماسك والصمود وحبس الدموع، رغم صعوبة الموقف، حيث يتمنّى الجلادُ لنا الذلّ والانكسار، ومن خلال وجود الميليشيات معنا، وإبعاد أهلنا عنا.

كان الجلاد يوسف علي يوسف المناعي – وهو شاب مراهق من مدينة ( قلالي)؛ هو منْ يُشرف على الزيارة في معظم الأحيان، وفوقه الجلاد بدر إبراهيم الغيث، ويأتي بعد الأخير الجلاد عيسى السليطي.

يُعرف المناعي بالغرور والغطرسة، وكان يجلس على كرسي، وأمامه طاولة، ويضع رجليه على الطاولة في وجه الأهالي. إلا أنه – ولشدّة الجبن – فقد كان يرتدي نظارات سوداء لإخفاء هويته.

عندما دخلت عائلتي أبعدوا والدتي عني مسافة كبيرة، ونظرا لكبر سنها لم تكن تبصرني بدقة، فطلبت مني أن اقترب منها، إلا أن الجلاد يوسف المناعي – ودون أية شفقة أو رحمة – رفض طلبي بتقديم مقعد والدتي مني. كانت الزيارة – وفي حالة مثل هذه الحالة – تُشكل محطة مؤلمة.
وفي مرة من المرات، اعتدى الجلاد بدر إبراهيم الغيث على والدة أحد المعتقلين في قضيتنا – المعروفة بشبكة أغسطس 2010م – وذلك بالكلام الفاحش والسوقي، ما أدّى إلى أن يُغمى عليها في غرفة الزيارة، وتم ضرب المعتقل والتنكيل بأفراد أسرته أمام عينه.

 

الجلاد بدر إبراهيم الغيث .. وجهاً لوجه مع أمي

 

ليلة اعتقالي، حاصرت منزلنا في منطقة عراد؛ عشراتٌ من عناصر القوات الخاصة وميليشيات جهاز الأمن الوطني بقيادة الجلاد بدر إبراهيم الغيث.
اقتحموا المنزل بعد رفضي دخولهم دون إذن من ما يُسمى النيابة العامة.

تلك الليلة غفل الغث عن أخذ هاتفي النقال معه، وتذكر ذلك بعد أن وصلنا مبنى حهاز الأمن الوطني سيئ الصيت في المنامة. سألني عنه، فقلت له بأنني لم أحضره، فاضطر للذهاب من جديد إلى منزلنا في الليلة التالية، وقرب الفجر. حاصروا المنزل مجددا، وقد كانت والدتي وزوجتي وولدي محمد – ذو التسع أعوام فقط – في المنزل.

أخذوا يطرقون النوافذ والباب الرئيس، فتحدثت له والدتي: ” ماذا تريد؟”. قال لها: “عبد الغني يريد هاتفه الجوال. منْ تكونين؟”. قالت له: ” أنا والدته”، وسخرت منه، وقالت له: “هل تعتقد بأننا أغبياء، تعتقل ولدي وتأتي لنا في وقت الفجر في اليوم التالي لتقول هذا الكلام”. قال لها: ” افتحي الباب”. فرفضت، وقالت له:”ألا تخجل من نفسك، أم أنه ليس لديك أهل، كيف تريد أن تدخل علينا المنزل ونحن نساء لوحدنا، لن نفتح لك الباب”. فرد عليها: “إن لم تفتحوا الباب، فلدينا ما نحطمه به، ولدينا أوامر بالدخول بالقوة”.

بعد أن أطلق سراحنا في فبراير 2011م، قالت لي والدتي أن بدر الغيث، وبعد أن دخلوا المنزل وفتشوه، هددها بالتنكيل.
كانت تقف في صالة المنزل، وكلما نزل عنصر من عناصر الجهاز أو خرج من غرفتي، قالت له في سخرية: “أخبرنا كم قنبلة وقطعة سلاح حصلتم عليها لدى ولدي “. فاستشاط الغيث غضباً، وهدّدها في حال لم تسكت؛ فإنهم سوف يتصرفون معها بشكل آخر.

 

أمهات ثائرات

 

هنا الأصالة، وهنا تُضرب أروع الأمثلة في الصبر.
هنّ أمهات البحرين اللاتي يواجهن بصمود، ويصبرن على فراق فلذات أكبادهن.

أم الشهيد.. أم المعتقل المغيّب لسنوات خلف القضبان.. أم المُبعَد الذي يُكابد وحشة الغربة والفراق.. آلاف الأمهات يستصرخن في البحرين، ويهتفن في وجه الجلاد الخليفي بعدم الإستسلام الصمود.

وهاهم يتحركن في كل الساحات، وفي الميادين، ويطالبن بالحرية لابنائهن من سجون الطغاة المظلمة. هذه هي الأم البحرانية المقاومة التي أنجبت أحمد فرحان وعلى بداح وهاني عبد العزيز، حري بنا جميعا أن نُكبر صمود الأم، ومواقفها التي يسجلها التاريخ، وحري بنا أن ننهض لنرفع قصص أمهاتٍ صامدات ثائرات.. فهن عنوان مهم من عناوين استمرار ثورة الغضب، وهن تباشير النصر الواعد والتغيير القادم.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى