مقالاتنادر المتروك

الصّف ثالث إعدادي فرقة ثلاثة

 

nader
نادر المتروك – كاتب إعلامي – بيروت
جهاد الحبشي. صادق القطري. خليل القصاب. علي عباس…وو
أبحثُ عنهم في سجلّ الحضور والغياب. أتفقّدُ الكرسي واحدا تلو الآخر. زملاؤهم الطلبة يخبروني: “أستاذ.. جهاد، حكموه ١٠ سنوات”. ماذا عن خليل؟ “١٠ سنوات أيضاً”. وهل رأيتم صادق؟ “أستاذ.. صادق اعتقلوه أمس”. أمّا علي عبّاس، فلم يجيبوا حين سألتهم. صمتوا، برهة، ثم استجمعَ أحدُهم شجاعته، ووقفَ بهدوء، وقال: “أستاذ أُستُشْهِد.. علي قتلوه”.
أسحبُ نفسي قليلاً إلى الوراء. أحرِّك الكرسي بجهْدٍ ثقيل. قدماي لا تُسعفني على الجلوس. أفتحُ الدّرجَ، واستخرجُ ورقة بيضاءَ: “ليكتب كلّ واحد اسمه، ولا تنسوا أن تكتبوا أسماء المعتقلين والشّهداء”.
في العام الدّراسيّ الجديد، أذكرهم واحدا واحدا. الوجوهَ والأسماء. كنّا، في حصّة الإنشاء، نختارُ أن نكون كباراً. إنه اتّفاقٌ ضمنيّ، لم نبُح به لأنفسنا، أو نكتبه على لوحة الإعلانات داخل الصّف. فقط، كنّا نقولَ الأشياءَ التي نريد، ونكتبُ ما لا يجوز إخراجه على الورق. نفعلُ ذلك من غير بطولةٍ ولا شعارات.
“أستاذ.. محمد البوعزيزي شهيد أو لا؟”. جيد! ليكن درس الإنشاء اليوم عن الفلسفة. “أستاذ، يعني ماذا فلسفة؟”. طالبُ الإعداديّة يجب أن يعرفَ الفلسفة، ومنْ لا يعرفُ الفلسفة، لا يعرفُ كيف يدخل، وعلى أي نحوٍ يخرج. “أستاذ، لم نفهم شيئا!”. جيد جدّا! المبدأ الأول في الفلسفة أن تسأل. إنها خطوتنا الأولى اليوم. علينا أن نسأل: “هل البوعزيزي شهيد أم منتحِر؟” وهكذا كان درس الإنشاء الأوّل في عامنا الرّبيعيّ الأوّل.
في الحصّة القادمة، سأقرأ لكم بعض ما كتبه زملاؤكم. “لا.. لا أستاذ، نخجلُ من ذلك!”. لا تخجلوا من أقلامكم. أنتم، كلكم، كتبتم اليوم فلسفة.”أستاذ، حتّى خليل القصّاب؟” (يضحكون وأضحك معهم). خليل! نعم، إنه فيسلوف. “خليل فلسسوف” (يضحكون وأضحك معهم). خليل فيلسوف، وليس فلسسوفاً، انطقوها جميعاً. “فيلسوف.. فيلسوف”. مرةً أخرى، أريدُ أن تسمعوا أنفسكم وأنتم تردّدونها. “فيلسوف.. فيلسوف..فيلسوف”. ثم يضحكون، وأضحك معهم.
يمرّ يومان، ثلاثة، وتأتي حصّة الإنشاء. أدخلُ الصّف، محمولاً بأوراق الإنشاء. تتحرّك بين الأوراق ورقةٌ مصبوغة بالأحمر. إنّها الاختيار الأول. سنقرأ اليوم، كما اتفقنا، فلسفة كلّ واحدٍ منكم.
العرادي: “البوعزيزي.. شهيد، ولكنه لن يدخل الجنة، هو أحرقَ نفسه، وفتح الثورة، ونال نصيبه من الدّنيا”. ما رأيكم؟ “الذي يقرّر دخول الجنة هو الله، نحن لا نعلم الغيب”. جيد. “البوعزيزي، لم يحرق نفسه، البوعزيزي أحرق الظلم”. جيد جدا. “البوعزيزي ليس ثائرا. هو شابٌّ غضبَ بطريقته الخاصة”. ممتاز…
لنقرأ فلسفة أخرى. محمد حسن: “البوعزيزي بطل، لأنه فعلَ الشيء الذي لم يجرؤ عليه الآخرون”. تعليقاتكم؟ “هو ليس بطلا. إحراق النّفس انتحار، وليس بطولة”. تمام… وهكذا.
قبل نهاية الحصّة، يرفعُ الفيلسوف خليل القصّاب إصبعه، ويسأل: “أستاذ، لم تخبرنا عن فلسفتك. هل البوعزيزي بطل؟ أم منتحر؟ أم شهيد؟”. أحسنت. جئت، أيها الفيلسوف (يضحكون وأضحك معهم) بثلاثة خيارات. كما قلتم، نحن لا نملك إجابة أخرويّة، فالغيب عند الله، وحده لا شريك له. ولكن، وكما قلتم أنتم، نستطيع أن نسأل عن وضعه الدنيوي، والأثر الذي فعله. لنتفق، أيها الفلاسفة، (لم يضحكوا هذه المرّة، ولم أضحك) أنّ البوعزيزي لم يحرق نفسه انتحاراً، بل احتجاجاً. بوعزيزي كان جامعيّاً، عاطلا عن العمل، ووجد كفاحه في الحياة معرّضاً للخيانة، فلم يجد أمامه- وهذا ضعفٌ منه ومن الأمّة معاً – إلا خياراً واحداً مدوّياً: أن يحوّل جسده شمعةً تضيء طريق الآخرين. “أستاذ يعني تقول بأنه انتحر؟”. لم يكن ينتحر، بل يتحرّر، ويحرّض البقية على التحرّر. “يعني نحرق أنفسنا لكي نتحرّر أستاذ؟”. أبداً، البوعزيزي لا يريد لنا أن ننتحر، هو يريد أن يقول: يا شباب العرب، لا تحرقوا أنفسكم، بل تحرّروا من الأغلال التي تحرق جلودكم، وإلا فإنكم ستحترقون مثلي. “يعني أستاذ كان بطلاً؟”.بالنسبة لشعبه وللشعوب كان كذلك، ولكني كلّ ما أستطيع أن أقوله هو أنّه أوْقد شمعةً، وحرّر أجسادنا. ترتفع الأيدي.. تطلب السّوال والتعليق، ولكن جرس نهاية الحصّة يختم فلسفتنا دائما. سنُكمل في الحصّة القادمة شباب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى