ما وراء الخبر

ستون يوما من حصار الدراز: انكشاف أوراق المفاصلة.. وصمود شعبي أحبط قرار نفي للشيخ قاسم

9e81c810ec880ed4fbeef6c3a5f7a369
البحرين اليوم – متابعات

أظهرت الأسابيعُ الماضية في البحرين الطبيعة “المفصّلة” للنظام الحاكم في البلاد، ويفضل مختصون بالشأن المحلي اعتبارَ الشهرين الماضيين “نموذجا” لمعاينة السلوك الخليفي الذي حكم به آلُ خليفة العبادَ والبلاد منذ دخولهم البلاد قبل أكثر من قرنين من الزمان، وهي الحقبة التي يؤكد باحثون بأنها شكلت “انتكاسة تاريخية” لهذه البلاد المعروفة بالحضارة والتاريخ العريق من الإنتاج العلمي والإنجاز العام.

العنوان الأبرز للأيام الستين الماضية هو إقدام آل خليفة على الخطوة التي كان يضعها البعض في “خانة” الخطوط الحمراء، وظن كثيرون بأن النظام لن يُقدِم عليها، وهي التعدي على شخص آية الله الشيخ عيسى قاسم واستهدافة بشكل مباشر عبر إسقاط جنسيته، ومحاولة ترحيله خارج البلاد قسرا، إضافة إلى إحالته إلى المحاكمة بتهمةٍ أراد بها الخليفيون الإمعان في استهداف رمزية الشيخ قاسم، أي تهمة جمع أموال الخمس.

ثمة ناشطون ينتقدون قيادات المعارضة السياسية لكونها لم تكن تخطط لمثل هذه المرحلة “المفصلية”، ويرصد هؤلاء مواقفَ للمعارضة بدت فيها “واثقة” بأن آل خليفة لن “يقدموا على ارتكاب هذه الحماقة الكبرى”، وذلك على الرغم من الهجوم المبكر على الشيخ قاسم، وظهور الملامح العامة لخطة استهدافه منذ السنة الأولى والثانية للثورة، وذلك عندما سُمح للمدعو سعيد الحمد بالظهور في تلفزيون آل خليفة والطعن في شخص الشيخ قاسم، والسخرية غير اللائقة به، فضلا عن تقديم معلومات للحمد حول حسابات الشيخ البنكية، والتلاعب بها لفبركة الاتهامات الجاهزة التي كُلّف الحمد وغيره بتمريرها عبر التلفزيون الخليفي والصحافة التابعة للنظام.

إلا أن ذلك، بحسب ناشطين، لم تواجَه بردود أفعال مناسبة، وجرى “تجاوز” هذه التعديات مؤقتا لضمان “سيرورة” مشاريع الحوار التي جرى الدفع بها في تلك الفترة، ولكن حين تم “الإكتفاء” بلعبة الحوارات؛ قام النظام بإعادة توجيه الهجوم ضد الشيخ قاسم، ومن مواقع المسؤولين الخليفيين، مثل وزير العدل الخليفي وغيره، وكان لأمين عام جمعية الوفاق المعتقل الشيخ علي سلمان، خطاب في إحدى محطات الهجوم على الشيخ قاسم، عبّر من خلاله عن “اللغة المطلوبة” التي لم يتم تثمير دلالتها على طول المواجهة مع المشروع الخليفي، حيث أعلن الشيخ سلمان بوضوح بأن “الحلول السياسية” و”الحل الداخلي” و”المنهج السلمي” لن يكون مضمونا من غير الشيخ قاسم، وهي رسائل كانت تتضمن معان واضحة “الإنذار” لآل خليفة الذين كان يظن المعارضون بأنهم – أي آل خليفة – سيرتدعون بمثل هذه الرسائل “التحذيرية”، حيث تبين أن المشروع الخليفي ضد الشيخ قاسم لم يتوقف، وتواصل التمهيد لاستهداف منبره ومنعه من الخطابة الدينية، وإلى أن وصل الأمر إلى بيت الشيخ قاسم واقتحامه، وسحب جنسيته بعد ذلك.

رتّب آل خليفة سلسلةً من الأوضاع الأمنية خلال شهري يونيو ويوليو لتثبيت ما يعتبرونه المعادلة الجديدة في مواجهة السكان الأصليين. بدأت الأمور بإجراء “قمع تدريجي” للنشطاء الحقوقيين والصحافيين المستقلين، بغية الحدّ من فضح الجرائم والانتهاكات المخطّط لها، وفي هذا الصعيد جرى إجبار الناشطة زينب الخواجة في ٤ يونيو ٢٠١٦ على الخروج من البلاد بعد إطلاق سراحها، ثم بدأ مسلسل منع النشطاء من السفر خارج البلاد للحيلولة دون المشاركة في فعاليات حقوق الإنسان في جنيف وأوروبا، وكان ذلك مع منع الدكتور طه الدرازي، المعتقل حاليا، في ٨ يونيو من السفر إلى بريطانيا، ثم منع وفد مكوّن من الحقوقين حسين رضي وابتسام الصائغ ووالدي الشهيدين علي مشيمع وعلي الدمستاني؛ من مغادرة مطار البحرين باتجاه جنيف لحضور فعاليات الدورة ال ٣٢ لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وبعدها بيومين جرى إعادة اعتقال الناشط المعروف نبيل رجب من منزله، وفي اليوم التالي تم الإعلان عن حل جمعية الوفاق، وجمعية التوعية الرسالة، ليبدأ في اليوم التالي، أي ١٤ يوينو، مسلسل استدعاء علماء الدين، وهو المسلسل الذي استمر حتى الساعة، وكان مصحوبا بتوجيه مدفوع من القمع المتسلسل باتجاه جامع الإمام الصادق بالدراز، حيث مُنع في ذلك اليوم الشيخ محمد صنقور من إمامة الصلاة وإلقاء الخطبة في الجامع، وترافق ذلك مع طبعة متداخلة من الاستداعاءات التي أُريد لها أن تكون تمهيدا لإعلان قرار إسقاط الجنسية عن الشيخ قاسم، والذي كان في ١٩ يونيو ٢٠١٦م، وهو اليوم الذي بدأ معه الاعتصام المفتوح أمام منزل الشيخ بالدراز، ليكون بمثابة الحدث “الشعبي” الأبرز، والمستمر حتى اليوم.

على الأغلب، لم يكن آل خليفة يحسبون حسابا لطبيعة الرد الشعبي والعلمائي ضد استهداف الشيخ قاسم، وشكّل الاعتصام إرباكا متصاعدا للعقل القمعي الخليفي، وبخاصةٍ لجهة سرعة تنظيم الاعتصام والمبادرة إلية، والاحتشاد الثابت فيه، ومبادرة علماء الدين لإدارته والتقدّم في صفوفه، وإبراز خطاب واضح في التضحية والفداء عبر ارتداء الأكفان واستدعاء مشهد ليلة العاشر من المحرم، وخطاب الإمام الحسين بن علي لأصحابه وطلبه منهم التفرُّق لضمان حياتهم.

لم يجد الخليفيون سبيلا غير التصعيد في جانبيْ: استدعاء العلماء واعتقال بعضهم، ومنع النشطاء من السفر، جنبا إلى جنب الاستمرار في الوتيرة الثابتة من القمع والاعتقال الشامل في مختلف مناطق البلاد، إلا أن آل خليفة كانوا يجدون أن “ظرف المواجهة” يستدعي إعادة تحريك الأدوات “التقليدية” المكشوفة التي يُؤمَّل منها إرهاق الصمود الشعبي وتشتيت البوصلة التي حدّدها الاعتصام في الدراز، وعلى هذا النحو كان لجوء النظام للقتل المباشر عبر جريمة قتل المواطنة طيبة مسلم في ٢٦ يونيو، وبعدها قتْل المواطن حسن الحايكي تحت التعذيب داخل السجن في نهاية يوليو الماضي. إلا أنّ خيبة آل خليفة كان واضحة، حيث جدد المواطنون مواقفهم الرافضة للنظام وهم يشيعيون الشهيدين، وكان منظر المواجهة المباشرة في تشييع الشهيد الحايكي؛ اختصارا لطبيعة الروح الشعبية التي لم تُصب بسوء رغم وسائل النظام وأدواته في القمع والإرهاب.

المواقف الصامدة التي أعلنها علماء الدين في البلاد كان لها أثرها في “تفكيك” المزيد من العلاقة بين آل خليفة والسكان الأصليين، فقد استمر توقيف صلوات الجمعة في عدد من المساجد على مدى أربعة أسابيع، لإظهار استهداف الخليفيين لهوية السكان الدينية، وحين أعلن العلماء لاحقا في ١٣ يوليو إعادة استئناف الصلوات؛ جرى توجيه الحشد باتجاه جامع الإمام الصادق بالدراز، بقصد تعزيز الصمود الشعبي والعلمائي في مسقط رأس الشيخ قاسم ومن على منبره، إلا أن الحصار الخليفي منع أئمة الصلوات المؤقتين من دخول البلدة، وعلى مدى أسابيع أربعة متتالية. وفي المقابل، كان التحدي الشعبي، وحرْص العلماء على إعلان عرقلة النظام لإقامة الصلاة؛ شكلا من الأشكال المعبِّرة التي قدّمت صورةً لطبيعة مشهد الاستهداف الذي سرعان ما أكّده كبار العلماء في ١٨ يوليو من خلال بيان وصفه متابعون ب”التاريخي”، حيث أكد علماء أربعة – الشيخ قاسم والسيد عبد الله الغريفي والشيخ عبد الحسين الستري والشيخ محمد صالح الربيعي -بأن الإجراءات الخليفية الممتدة على مدى شهر في حينه؛ تستهدف “المكون الشيعي في البلاد في وجوده ومعتقداته”، وقد سبق ذلك إعلان النيابة العامة الخليفية توجيه اتهامها “رسميا” للشيخ قاسم بجمع أموال الخمس وإعلان إحالته للمحاكمة التي بدأت في أول أغسطس الجاري، كما تم اعتقال الشيخ محمد صنقور والتحقيق معه في النيابة الخليفية والإفراج عنه لاحقا.

شكّل بيان كبار العلماء إمدادا إضافيا للحضور الشعبي، وخاصة للمرابطين في اعتصام الدراز المحاصرة، إلا أن أثره الأهم كان على صعيد “كشف” أوراق المفاصلة التي باتت “كاملة” بين الخليفيين والسكان الأصليين، حيث أضحى جليا – وبشهادة كبار علماء البلاد – أن السكان يتعرضون لخطر يستهدف وجودهم، وهو المعنى الذي أعطى توضيحا لطبيعة الهجوم المستمر منذ أكثر من ستين يوما، وهو ما اضطرّ معه خبراء الأمم المتحدة للاعتراف به عبر إصدار بيانٍ قبل أيام، وصفه البعضُ بالتاريخي أيضا، أقرّوا فيه بأن السكان الشيعة في البحرين يتعرضون لاستهداف ممنهج.

في الخلاصة، لم يفلح النظامُ الخليفي في تحقيق هدفه الإستراتيجي بتوجيه “الضربة الأقوى” ضد السكان من خلال تنفيذ قرار تسفير الشيخ قاسم قسرا، وهو القرار الذي روّجت مواقعُ قريبة من النظام بأنه كان جاهزا، وعمِل النظامُ كل ما بوسعه لتنفيذه، حيث شنّ عدة مناورات للتوغل داخل بلدة الدراز، وعلى مقربة من موقع الاعتصام، وقد بدأت هذه المحاولات العسكرية منذ ١٩ يوليو الماضي وحتى يوم أمس، السبت ٢٠ أغسطس الجاري. كما تعمّد النظام بثّ العديد من الشائعات في إطار الحرب النفسية الرامية لإنزال الهوان في نفوس المعتصمين، وإضعاف التواجد الشعبي المتضامن، فضلا عن توسيع مروحة الاعتقالات والاستدعاءات والمحاكمات للعلماء والناشطين وآباء الشهداء والمواطنين بتهمة “الاعتصام” واعتباره “تجمهرا غير مشروع” وملاحقة الناس بسببه “قضائيا”، فيما جرى إعادة استعمال سياسة “تدوير الوجوه” ونشْر صور المعتصمين في المواقع المختلفة لتحريض السلطات على اعتقالهم، على غرار ما حصل في الشهور الأولى من ثورة البحرين عام ٢٠١١م.

في الجهة الأخرى، لم يتراجع المعتصمون عن ثباتهم، واستمرّ الحراك الشعبي والثوري في مختلف المناطق، ورفَدَ الإحياءُ الثوري للمناسبات الوطنية وذكريات الثورة؛ الاعتصامَ المفتوح في الدراز بالحيوية والصمود، ويكاد يُجْمِع المعارضون بأن هذا الاعتصام، وبما يرمز له من دلالات وأحداث مقطعية، مثّل “الفرصة التاريخية غير المتكررة لالتقاء قوى المعارضة وتماسكها”، كما كان للاعتصام دوره في حسْم العلاقة مع آل خليفة، وتبيان حقيقة مشروعهم التدميري، وأنّ الجميع – من مواطنين ونخب وعلماء – باتوا على يقينٍ تمام بهذا المشروع وجدية تطبيقه، وأنّ المعركة لم تعد تتعلق بالمطالب السياسية، أو بالنقاش على هوامش الملفات الحقوقية، بل تدور حول الوجود الطبيعي، والديني، والثقافي. أي “إبادة” السكان الأصليين وتحويلهم إلى أقلية لا حول لها ولا قوّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى