ما وراء الخبر

من تزوير التاريخ.. إلى حرب الوجود: ١٤ أغسطس في أحضان ثورة ١٤ فبراير

maxresdefault
البحرين اليوم – متابعات
على الأغلب، فإنّ الجيل الصاعد الذي نشأ في عقد الثمانيات لم يكن يتداول في يومياته شيئا عن استقلال البحرين. عاش هذا الجيل تحت تأثير الدعاية الخليفية المستميتة التي أوحت للمواطنين بأن المناسبة “الوطنية” الوحيدة التي ترتبط بالوطن وتاريخه؛ هي المناسبة التي يحييها الخليفيون في ١٦ ديسمبر، والتي حرصوا على أن تكون “عيدا” للاحتفال والفرح العام، وتتعطل فيها المؤسسات الحكومية والخاصة كافة، كما كان لافتا أن النظام – وخاصة في فترة الثمانينات – ضخّ برامج ومهرجانات “عامة” في هذا اليوم، لاستقطاب المواطنين وإدخالهم في “أجواء” الاحتفالات المصاحبة. ولا يزال يتذكر هذا جيل تلك الفترة؛ تلك الكرنفالات التي كان يتم تنظيمها في الشارع المحاذي للاستاد “الوطني”، وتُلزم فيها كل وزارة بالمشاركة فيها من خلال شاحنات وعربات متحركة في طابور طويل، تمتليء بصور الخليفيين، والعبارات التي تربط بينهم وبين “أعياد الوطن”، فيما كان الحضور العام للعائلات؛ يمد الكرنفال بطابع شبه “شعبي”، وهو ما يختصر حجم “التزييف الممنهج” الذي كان يوجه لغسل الذاكرة وإحلال تواريخ وشخوص وحوادث بديلة عن الحقائق الفعلية التي ترتبط بتاريخ الوطن ورجالاته، وهو التاريخ الذي أُلغي قصدا من مناهج التعليم، ولم تتوفر له المنابر أو المؤسسات أو الجهات المعنية بإظهاره للمواطنين.

“الهزّة” الأولى التي شرخت هذا التزوير؛ كانت مع اندلاع انتفاضة التسعينات (١٩٩٤م)، حيث بات جيل العقد الثاني من الاستقلال؛ أمام مشهد حيّ لطبيعة القبيلة الحاكمة، ولاسيما مع سياسة التمييز والفصل الطائفي واستجلاب الأجنبي وتقويته على حساب أبناء الوطن الأصلاء. انعكس هذا الوعي من خلال الشعار المثير للجدل الذي نمى آنذاك: “الموت لآل خليفة”، والذي رأى البعض بأن معناه الرمزي كان رسالة ضمنية بعدم الانتماء إلى هذه القبيلة، وأن العزيمة المفترضة هو المضي باتجاه “فك الالتباس التاريخي” الذي اشتغل عليه الخليفيون عبر صناعة التاريخ المزور الرابط بين آل خليفة والبحرين. وخلال أحداث الانتفاضة التي عُرفت ب”انتفاضة الكرامة”؛ كان ثمّة توجه بين الناشطين بضرورة تجاوز المطلب التقليدي آنذاك، والمتمثل في إعادة العمل بدستور ٧٣ وتفعيل البرلمان، وسعى أصحاب هذه الرؤية إلى نشر إضاءات تاريخية حول حقيقة آل خليفة، وإثبات عدم ارتباطهم بهذه البلاد، إضافة إلى جرائهم القديمة بحقّ السكان الأصليين، وتم إنتاج شرائط فيديو “محلية” حول هذه المعاني، وتم تداولها بالأيدي بين الأهالي، ولكن هذا الجهد ظل محدودا، ولم يتبلور في المشهد السياسيّ العام، على الرغم من المؤشرات المستمرة التي كانت تدل على نضوج الفكرة واتساع المؤيدين لها، كما كان يتضح مثلا مع سلسلة البيانات التي أصدرها آنذاك نشطاء تحت عنوان “الوطن السليب”.

اشتعل هذا التفكير مرة أخرى، وبطابع جدّي، بعد أن طرح الحاكم الخليفي حمد الخليفة في نهاية عقد التسعينات ما يُسمى ب”الميثاق الوطني”، وخاصة بنسخته الأولى التي تضمنت ديباجة اعتبرها الناشطون “خطيرة” لجهة تزوير تاريخ البحرين كليةً، وإظهار آل خليفة باعتبارهم “أصل” هذا التاريخ وروّاده، وكان الشعور بالخطر مؤكدا مع مشروع تحويل البحرين من “إمارة” إلى “مملكة”، حيث كان يتم تداول اسم آخر للبلاد، يدمغها باسم آل خليفة، من قبيل “المملكة الخليفية”، وعلى غرار التزوير التاريخي الكبير الذي فعله آل سعود بتسمية بلاد الجزيرة العربية ب”المملكة السعودية”. ولأسباب كثيرة، لم ينجح آل خليفة في تمرير النسخة الأولى من “ميثاق التزوير”، كما اصطلح عليه ناشطون في وقته، إلا أنّ انتقادات اعتاد ناقدون لتلك المرحلة على تداولها في المجالس الخاصة والعامة؛ ومؤداها بأن المجتمع السياسي المعارض – بمختلف أطيافه – ارتكب يومئذ “أكبر أخطائه بحق تاريخ البحرين، وذلك عندما تم استدراجه إلى مكيدة (الميثاق)” مشيرين إلى أنه كان “المحطة الفعلية لدخول حمد الفعلي في مشروعه التخريبي الأكبر باستهداف السكان الأصليين”.

عاد الجدل حول الميثاق بعد العام ٢٠٠١م، ولكنه لم يأخذ اتجاهه الصحيح، حيث اقتصر على “تبادل الملامة” بين المعارضين الذين دخلوا في سجالات “سياسية” حول المشاركة أو المقاطعة للبرلمان الجديد الذي هندسة الخليفيون بما يناسب استمرار استبدادهم وهيمنتهم على البلاد. وباستثناء ذلك، فإنّ التاريخ يسجل للدكتور سعيد الشهابي أنه كان الصوت الوحيد، والأكثر وضوحاً وجرأة، الذي حذّر من المشروع “الخفي” لآل خليفة، والذي حُمِّل إياه حمد شخصيا، وهو مشروع “تخريب التركيبة السكانية” للبلاد، وتمزيق هويتها، في مقابل استزراع هويات ممزقة وملفقة يتم استحضارها من تاريخ آل خليفة الوهمي، ومن المكونات السكانية التي يتم استجلابها من الخارج، وزرعها في البلاد داخل مستوطنات خاصة بالمجنسين والأغراب. واستطاع هذا “الصوت” أن يؤثر على الوجود السياسي المعارض، وتمت إقامة فعاليات كشفت ملامح من هذا المشروع التدميري، ولكن من غير إعداد رؤية متكاملة لطبيعة هذا المشروع، فضلا عن غياب “الإرادة المنظمة” لمواجهته، كما تبين من خلال استمرار الإنشغال في تفاصيل “الحياة” السياسية الجديدة التي عمِد الخليفيون إلى إلهاء الجميع بها، فيما كانوا يمضون قدما في مشروعهم
“الإستراتيجي” القاضي بكسر المعادلة السكانية وزعزعة تركيبتها الهوياتية.

خلال تلك الفترة، وفي محاولة “ناعمة” لمواجهة هذا المشروع، بدأت المعارضة باسترجاع يوم الاستقلال في ١٤ أغسطس، وجرى الاحتفال به عبر إصدار البيانات وإقامة بعض الندوات الخاصة بالمناسبة، وبينها الإحياء الخاص الذي استمرت في تنظيمه المعارضة البحرانية في بريطانيا بالبرلمان البريطاني، وكان لافتا أن آل خليفة أبدوا انزعاجا مبكرا من هذا الإحياء، واستعملوا وسائل مختلفة لعرقلته وخاصة في البحرين، في حين تم إرسال رسائل “تحذير” إلى الجمعيات السياسية لعدم الاستمرار في إحياء ذكرى الاستقلال، وخاصة بعد تداول فكرة تنظيم “مسيرات” بهذه المناسبة.

مع نهاية العام ٢٠١٠م، محى المواطنون من ذاكرتهم العلاقة “الجبرية” و”المزورة” بتاريخ ١٦ ديسمبر. وبات هذا التاريخ يرتبط بمعان أخرى ضد آل خليفة، حيث ترسخ شعبيا إحياء “عيد الشهداء” في هذا اليوم الذي سقط فيه أول شهداء انتفاضة التسعينات، هاني خميس وهاني الوسطي. حاول الخليفيون إلغاء هذا الإحياء الشعبي في ظل الإصرار الشعبي على تنظيم تظاهرة “عيد الشهداء” في هذا اليوم، وجرّب النظام أسلوب القمع في ذلك، حيث حوصرت في العام ٢٠٠٨م منطقة رأس رمان، التي تنطلق منها التظاهرة المركزية، واحتشدت القوات في الشوارع الرئيسية حول البلدة والعاصمة المنامة لمنع خروج التظاهرة التي كانت ترعاها في ذلك الوقت “اللجنة الوطنية للشهداء وضحايا التعذيب”. وسبق هذا الأسلوب القمعي في منع “عيد الشهداء”؛ محاولات أخرى وبأساليب مختلفة تم “توظيف” بعض المعارضين للقيام بها، من قبيل محاولة البعض تغيير موعد إحياء “عيد الشهداء” من ١٦ و١٧ ديسمبر إلى تاريخ آخر (تم طرح شهر مارس وشهر أبريل بديلا عن ديسمبر)، إلا أن هذه المحاولة باءت بالفشل أيضاً، ورأى المعارضون هذا المقترح في “التغيير” شكلا آخر “تزوير التاريخ وتغييره، يوازي التزوير الخليفي باعتبار ١٦ ديسمبر عيدا وطنيا”.

تثبّت الأمور، وترسخت الخيارات الشعبية في هذا المجال، مع اندلاع ثورة ١٤ فبراير في العام ٢٠١١م. على مدى سنوات الثورة، صمد الاحتفال الشعبي بعيد الشهداء في يوم الجلوس المشؤوم لآل خليفة على الحكم، وبات هذا اليوم من كل عام؛ يوما للحداد والتظاهر ضد الوجود الخليفي في البلاد، بما يعنيه ذلك من تمزيق للتاريخ المزور، والتأكيد على عدم ارتباط الاحتفال الخليفي بهذا اليوم (الذي فقد كل مظاهره وحضوره الشعبي، وخاصة بعد إعلان آل خليفة ١٧ ديسمبر يوما لقتلاه المرتزقة الذين سقطوا في الحرب على اليمن) أي معنى للوطنية والفرح الوطني. وفي الوقت نفسه، وطدت ثورة ١٤ فبراير مفهوم التحرر من آل خليفة، باعتبارهم محتلين، ويخططون دون توقف على مشروع “إبادة” السكان الأصليين، وتذويبهم في المجاميع البشرية (المرتزقة) التي توفرت لها سُبل الاستيطان بالبلاد، وبموازاة محو هوية السكان الأصلاء، وتفتيب وجودهم المادي والبشري والاجتماعي، واستضعاف مقوماتهم وموزهم وشعائرهم الدينية والوطنية والتاريخية، وذلك على النحو الذي تجلى بكل التفاصيل مع حملة الاستهداف المفتوح التي بدأت في يونيو الماضي.

حتى الآن، استطاعت ثورة ١٤ فبراير، أن توفر القواعد الأساسية لإدارة مشروع مقاومة المخطط الخليفي الممنهج، حيث نجحت الثورة في بناء منظومة ثابتة من القيم والمصطلحات في التعاطي مع آل خليفة: (المحتلين، الغزاة)، وتاريخ الوطن (عيد الاستقلال في ١٤ أغسطس، والاحتفاء بالسكان الأصليين من السنة والشيعة)، والتأكيد على الاستقلال من الاحتلالات الأجنبية المختلفة (آل سعود، وبريطانيا خاصة، حيث أعلن حمد عن رفضه قبيلته للانسحاب البريطاني من البحرين). وجرى تعميم مقولة “المفاصلة” بين “الخليفيين” و”السكان الأصليين”، باعتبارها العنوان العريض للمقاومة المطلوبة في معركة الوجود القائمة، وبهذا فإن الخطوة المنتظرة – وبعد الانتهاء من الوعي القيمي والثقافي؛ هو ترتيب القوى المعارضة لأوراقها، وتحديد أولوياتها، وإنهاء نقاط الخلاف المتبقية، باتجاه التأسيس لمشروع مقاومة حرب الوجود التي وصلت أعلى مستوياتها. ومن المؤكد أن هذا التأسيس يحتم على المعارضين في الداخل والخارج بناء هيكل جامع، وببنية مؤسساتية وطنية راسخة، ولعل عيد الاستقلال يمثل التاريخ الحافز للتعجيل بهذا المشروع والانطلاق به.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى