مقالاتنادر المتروك

من ذاكرة المعتقل: الشهيدان السميع وقمبر

نادر المتروك - كاتب صحفي - بيروت
نادر المتروك – كاتب صحفي – بيروت

ثمّة رابطٌ كبيرٌ في الذّاكرة “الشّخصيّة” بين الشّهيد حسن طاهر السّميع (6 مارس 1996)، والشهيد عيسى قمبر (26 مارس 1996).

عندما أُستشهد السّميع، تحوّل الحرم الجامعي إلى مأتمٍ، وتفجّر محيط جمعيّة كلية التربية، التي كان يرأسها الشهيد، إلى بُكاءٍ هزّ مباني جامعة البحرين، في الصّخير. إلا أنّ أصوات الطلبة المتظاهرين كانت أقوى من النّحيب.

كان المتوقّع يومها أن يحلّ زوّار الفجرِ بيتنا. لم يتأخّروا كثيراً، وحلّوا قرابة منتصف الليل، حيث كنتُ ليلتها أقرأ كتاب “الخصائص” للّغوي الفذّ عثمان ابن جني. دخلَ الضّبّاط مباشرةً إلى غرفتي، بالطابق الثاني من المنزل، وأغلقوا البابَ، وتوجّهوا مباشرةً إلى جهاز الحاسوب. عقدوا تحقيقاً سريعاً داخل الغرفة ثمّ توجّهوا بي مباشرة إلى لجنةِ التحقيق. حيث بدأت حكاية السّنوات المليئة بالمرارةِ، والكثير من الدّروس والذّكريات التي لا تُنسى.

أحد رفاق الدّرب الذين بدأتُ معهم المشوار منذ أوّل يوم للاعتقال، هو سماحة السّيد علي الموسوي الدّرازي. رجل الدّين الذي تنطبعُ على محياه، وصوته، كلّ ملامح أهل الدّيرة الطّيبين، الذين لا تغادرهم البسمةُ، وروح الإخوة. كنتُ شاهداً على التعذيب الوحشيّ الذي تعرّض له سماحة السّيد. كان شاهداً، بدوره، على “الجولات” التي مرّت عليّ، والتي يحفظها جمْعٌ من شباب بلدة جنوسان، الذين كانوا محلاًّ للاستهداف تلك الأّيّام. هؤلاء كانوا من أهل الطّيبة والشّهامة، ولازالت أياديهم محفورةً في ذاكرتي، حيث كانوا يمسحون بأيديهم المكبّلة على قدمي الملتهبة، في سعي منهم لتحريك الدّم المتجمّع فيها، حيث كنتُ أُجبرُ على الوقوف طيلة التحقيق.

حينما سمعتُ أن شباباً من جنوسان بيننا، تذكرتُ، مباشرةً، صاحبي “ابن جني”، واسترجعتُ رقم الصّفحة التي كنتُ أقرأ فيها حينما هجمَ الضّبّاط على غرفتي. سيكون “ابن جني”، و”جنوسان” مفتاحاً لكثيرٍ من عمليات التجريب الذهني والنّفسي داخل السّجن، وخاصة في سجن لجنة التحقيق (أقدم أماكن التحقيق في القلعة)، والتي سأكون فيها بضعة أشهر مع خير الأصحاب (وخلال عهد “الغوص”، وعهد “النفط” في اللجنة، وهي توصيفتان اعتدنا على إطلاقها على المرحلة الأولى من مبنى اللجنة، وهو في حالته القديمة المستمرة منذ الستينات، وإلى أن تمّ تجديدها، وبناء زنازن انفرادية فيها، إضافة إلى توقيف واسع، وذلك في مايو 1996م).

بعد أسبوع “حافل” من التحقيق، أخذني الضّباط مع سماحة السّيد، إلى مركز “الحد القديم”. قضينا هناك أياماً قليلة، ثم تمّ إعادتنا إلى اللجنة، حيث تواصل التحقيق عدة أشهر أخرى.

في مركز الحد، كان سماحة السّيد يُضمر خبراً مؤلماً. كنتُ أعرفه، وقد سمعته، معه، من الضبّاط أنفسهم. إلا أن السيد كان مترّدداً في إفشائه للشّباب في اللّجنة وفي مركز الحدّ، أو أنّه لم يجد الفرصة المناسبة لذلك. إنه إعدام الشهيد عيسى قمبر.

قبل نقلنا إلى مركز الحدّ. كنتُ في غرفة التحقيق. كان السّيد هناك أيضاً. جاء الضابط خالد الوزّان، طلب من السيد أن يُحرّك بحاجبه “الصّمادة” عن عينيه، لكي يقرأ ما عرضه أمامه. بطريقتي الخاصة، رفعتُ صمادتي أنا أيضاً، وقرأتُ ما قرأه السيد: الصفحة الأولى من جريدة “الأيام” وهي تنشر خبر إعدام الشهيد قمبر. لم يُعلّق السيد، وكتمَ غضبَه وسط هستيريا الضّحك الذي أطلقه الوزّان في الهواء، قبل أن يغادر الغرفة.

في مركز الحدّ، استرجعتُ صورة الشهيد حسن طاهر السميع، والشهيد عيسى قمبر. كان شقيق حسين العشيري حاضراً في الزنزانة أيضاً. كانت بانوراما الشهداء ليلتها مؤثرةً في سيرة “المعتقل”، وخاصة بعد عودتي، مع السيد الموسوي، إلى التحقيق من جديد، حيث بدأت مرحلةٌ أخرى من “انتزاع الاعترافات”، وكان الشهيد حسن طاهر السّميع حاضراً في ظلّها وظلالها.

رحمك الله، يا هندام الرّجولة والشّرف.

دمت خالداً في عيوننا، وفي أطرافِ كلّ حروفٍ رافقتنا، حاضراً كنتَ أو غائباً، أو شهيداً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى