ما وراء الخبر

السعودية المحاصَرة: مؤتمر الشيشان والصواريخ الباليستية.. هزائم وهابية آل سعود

ت15

البحرين اليوم – متابعات
بعد أيام من السجال الحاد حول المؤتمر الأخير لعلماء “السنة” الذي عُقد في الشيشان، سجّلت السعودية موقفها الرسمي من التوصيات التي خرج بها المؤتمر، وذلك من خلال بيان أصدرته ما تُسمى هيئة “كبار العلماء” التابعين لآل سعود، امتلأ بالعبارات الخطابيّة حول “الوحدة” و”الاجتهاد” و”قبول الاختلاف” للتغطية على الهجوم الواضح الذي وجهه إلى رجال الدين “السنة”، وبينهم شيخ الأزهر وعدد كبير من كبار رجال الدين من أنحاء العالم، الذين اجتمعوا في “غروزني” تحت مظلّة مؤتمر بحث حول “من هم أهل السنة؟”، وخلُص المجتمعون إلى تحديد أهل السنة والجماعة في “الأشاعرة والماتريدية في الاعتقاد، وأهل المذاهب الأربعة في الفقه، وأهل التصوف الصافي علماً وأخلاقا وتزكية”، بحسب البيان الختامي الذي استبعد “السلفية” واشتقاقاتها من تحديده التعريفي، وهو ما أدّى إلى استياءٍ عام في أوساط الوهابيّة السعودية، وشنّ رجال دين محسوبون عليها هجوما على المؤتمر والمجتمعين فيه، وطال الهجوم شيخ الأزهر – الذي يمثل مرجعية دينية رسمية في العالم الإسلامي السني.

بيان علماء آل سعود لم يخفِ غضبه من المؤتمر، وهو غضب يعكس الغضب “الرسمي”، كما يؤكد الدبلوماسي السعودي عبد الله الشمري الذي يقول بأن البيان “دليل واضح على أن الغضب السعودي من مؤتمر الشيشان رسميّ أيضاً”، فضلا عن أن استبعاد المؤتمر للوهابيّة السعوديّة شكّل “ضربة” للتكوين الأيديولوجي الذي يستند عليه آل سعود في حكمهم، وبحسب التحالف الإستراتيجي بين المؤسسين محمد عبد الوهاب والملك السعودي المؤسس.

لا يعكس الاستياء السعوديّ اختلافا في الموضوع الدّيني فحسب، ولكنه يؤشر إلى السياق العام في أوساط علماء أهل السنة “المعتدلين”؛ والذي يحمل تبرما من الاحتكارية الوهابية لأهل السنة، وخاصة مع المشروع السعودي المتصاعد مؤخرا والذي يرمي من ورائه آل سعود إلى فرض زعامتهم السياسيّة على العالم الإسلاميّ، وهي زعامة تنطوي على المسعى السعودي القديم لنشر الوهابية واعتبارها المظهر التمثيلي “الأصح” لأهل السنة، ويمكن اعتبار مشاركة شيخ الأزهر في المؤتمر، وعلماء دين كبار من المحسوبين عن الاعتدال السني والصوفيّة؛ محاولة من “المتنافسين” لسحب البساط من تحت أقدام السعوديين، وإرباك حلمهم في تثبت زعامتهم الدينية والسياسية، وهو حلم تشنّ السعوديّة لأجله الحروب والنزاعات والفتن في كلّ مكان، وبأدوات “طائفية مفتوحة”، وهو ما يجعل بيان “هيئة كبار العلماء” متناقضا، وخاصة حينما أشار إلى مخاوفه من “الطائفية” و”التلاوم” واتهام المجتمعين في الشيشان ب”عدم الحصافة” و”توظيف المآسي والأزمات” لتحقيق أغراض “دينية”، وهي اتهامات ترتدّ إلى آل سعود ومؤسسهم الدينية على وجه الخصوص، لكونها كانت أداةً ضاربة في تعميق الطائفية في العالم العربي والإسلامي، وأسهمت بشكل واسع في نشر التكفير وتشريعه، وخاصة للشيعة والمتصوفة.

وفي النتيجة، فإن الوهابية وجدت نفسها خارج التصنيف “الرسمي” لأهل السنة بحسب بيان غروزني، وهو ما سيجعلها “تكافح” بوسائل مختلفة لإثبات انتسابها إلى دائرة أهل السنة والجماعة، ولكنها ستكون مضطرة – من جديد – للوقوع في خطابها الإلغائي، الأمر الذي سيجعل كفاحها لإثبات “سنّيتها” واحدة من السّبل التي ستفضح بنيتها المتطرفة أكثر، وستكشف من وراء ذلك الاستعمالَ السعودي لها، ليس لجهة تثبيت النظام السعودي وإسباغ الشرعية عليه، ولكن أيضا لجهة استعمالها في الحروب السياسية والطائفية التي يظن آل سعود بأنها ستفتح لهم الطريق للسيادة على العالم الإسلامي.

يذهب الباحث السياسي حمزة الحسن إلى أن استبعاد شيوخ الوهابية من مؤتمر الشيشان يكشف الموقف العام الذي يعتبر الوهابية “أساس بلاء المسلمين”، مشيرا إلى أن هناك “تيارا يكبر الآن، لا يعتبرهم جزءا من السنة”. ويستذكر الحسن جهودا سابقة بذها مفتي السعودية السابق عبد العزيز بن باز في مجال فصل الوهابية عن العالم السني، ويضيف الحسن بأن “الوهابية الأقلوية تريد تمثيل العالم السني وفرض رؤيتها عليه”، ويعلل الحسن رفض الوهابية المتنامي إلى تسببها في تفريخ “داعش والقاعدة وما بينهما من عنف وتكفير اكتوت به أغلب الدول الإسلامية”.

من جهة أخرى، كان لافتا أن المحسوبين على جماعة الإخوان المسلمين شاركوا في الحملة على مؤتمر الشيشان، وهي حملة كانت مبكرة ومدبّرة، ومحمومة، واستعمل فيها رجال الدين والكتاب المحسوبين على الجماعة؛ قاموسا لا يختلف عن القاموس “الوهابي” في التسخيف والتعالي والهجوم اللفظي. وعلى الرغم من الاختلاف الأيديولوجي بين الإخوان والوهابية، وفي الوقت الذي يتقارب بيان غروزني مع المنظومة الأيديولوجية العامة للإخوان، إلا أن الجماعة وجدت نفسها منساقة للهجوم على المجتمعين في مؤتمر “أهل السنة” لأسباب سياسيّة، حيث كان الحضور المحوري لشيخ الأزهر سببا لإحراج الجماعة، لما يحمله شيخ الأزهر من موقف مناويء للجماعة وداعم لحكم عبد الفتاح السيسي في مصر، كما أن الزعيم الروحي للجماعة، الشيخ يوسف يوسف القرضاوي، لم يكن مستغربا أن ينضم إلى المهاجمين للمؤتمر والزعم بأن الأخير “يطعن في السنة ولا يخدم الإسلام”، وذلك تحت تأثير الخلاف السياسي والمرجعي بين القرضاوي والأزهر، فضلا عن الصراع “الأعمق” الذي يمثل كل واحد منهما الواجهة الدينية له، أى الصراع بين المشروع السعوديّ الوهابي، والمشروع الإماراتي الصّوفي.

أكثر العلماء المشاركين في مؤتمر الشيشان خروجوا أو عبروا من مطارات دولة الإمارات باتجاه غروزني، كما أن عددا منهم يقطنون ويعملون في الإمارات. وفي حين تتمسك دولة قطر بإرث وهابيّ غير مختلف عن الأصل الموجود في السعودية؛ فإن الإمارات تسعى منذ مدة لبناء “مرجعية” دينية خاصة بها، وشكلت من أجلها مجلسا لحكماء المسلمين، وجمعت فيه طيفا من علماء الدين الأزهريين والمتصوفة، وحظي هذا المجلس بدعم مباشر من شيخ الأزهر. هذا التقاطع القطري السعودي من جهة، والإماراتي من جهة أخرى؛ يفسر المواقف المنددة للمؤتمر التي صدرت عن الرياض والدوحة (الوهابية والإخوان)، وهو ما يؤكد الخلاف الإستراتيجي بينهما وبين الطموح الإماراتي الذي يتبلور بسرعة باتجاه بسط نفوذ متمايز، فيما الإماراتيون يدركون بأن ذلك يتطلب تمايزا في المرجعية “الدينية”، وهو ما تؤسس له الإمارات – بهدوء ولكن بتخطيط متقن – عبر جملة من المشاريع الدينية والمظلاّت الروحية، وآخرها مؤتمر الشيشان.
الوهابيّة، إذن، هي الخاسر الأكبر من بيان العلماء المجتمعين في الشيشان، وهو ما يعني أن المشروع “الديني” لحكم آل سعود يواجه أكثر المعارك الداخليّة شدةً، وقد تكون هذه المرة حاسمة في تحديد مصير هذه الأيدولوجية التي تضّخ القوة والشرعية لآل سعود، وهي معركة غير منفصلة عن المعارك الفعلية التي يتورط فيها آل سعود، ولاسيما المعركة العدوانية في اليمن، حيث تواجه السعودية أكثر الخسائر على مستوى الميدان، وقد شكل شهر أغسطس الماضي الحصيلة الأكبر من خسائر السعوديين منذ بدء العدوان في مارس من العام الماضي، فيما لا تزال الصواريخ الباليستية التي تدك المدن السعوديّة في الحدود الجنوبيّة؛ تؤكد أن آل سعود سيعيشون فترة من الوقت هاجس “الاضمحلال” و”الذوبان” و”التفكك” المزدوج، أي الداخلي والآتي من الحدود.

من المهم الربط بين قرار كبار العلماء بفصْل الوهابية من العالم السني، وبين الصاروخ الباليستي “المطور” الذي هز عمق السعودية يوم أمس الجمعة، حيث دخل صاروخ “بركان ١” الباليستي في إدارة المعركة ليكون إضافة غير تقليدية في صدّ العدوان على اليمن، وقد تم تصميم رأسه الحربي لقصف القواعد العسكرية الضخمة، ويصل لمدّيات أبعد من ٨٠٠ كلم، وبوزن تفجيري يُقدّر بنصف طن، من وزن إجمالي للصاروخ يصل إلى ٨ طن.

CrXrW7LWEAAwxAFالصاروخ الذي قالت وزارة الدفاع اليمنية بأنه أُطلِق إلى العمق السعودي، دون تحديد المنطقة، أكدت بأنه “أصاب هدفه بدقة عالية”، وأوضحت بأنه جاء رداً على “استمرار الحرب السعودية على اليمن” وعلى “جرائمه البشعة وحصاره الآثم”، واعتبر بيان الوزارة “هذه التجربة العملانية (..) تحذيرا إلى قوى العدوان من مغبة تماديها في الإجرام والتوحش”.

إن هذا التصدّع المتواصل في جبهة العدوان على اليمن يوميء إلى فشل آل سعود في أكبر حروبها الخارجية، والتي قد تكون آخرها، وهم يدركون أن نتائجها تحمل “معنى وجوديا” يوازي الوجود الأيديولوجي الوهابي الذي يمدّهم بالاستمرار. إنّ هذا التصدع المزدوج، في الميدان وفي البناء الوهابي، يحمل بين طياته كبرى الهزائم الحساسة لوجود آل سعود، ومن غير المستبعد أن يدفعهم ذلك إلى المزيد من “الحماقات” التي ستزيدهم تفككاً، وستسرّع من الانحسار الإستراتيجي الذي يسعون طويلا لتأمينه عبر الحروب والتأجيج الطائفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى