حكايات الضحايا

حسين سرور: قضيتي أقوى من بطش الجلادين.. وقد وجدنا لكي ننتصر

البحرين اليوم – (حكايات الضحايا)

 

من بين ثقوب صغيرة؛ تمد زهراء ذات العامين أصابعَ يدها الصغيرة الناعمة لتلاعب بها أصابع والدها الذي فارقها منذ أن كانت جنينا في أسبوعها الثاني. لم تتحدث زهراء لوالدها، بل ظلت صامتة تراقب قسمات وجه أبيها حسين سرور، وانقضت نصف ساعة والطفلة تكتفي بملامسة أصابع أبيها من خلف حاجز سجن جو، سيء الصيت.

في غياب والدها؛ تقضي زهراء أوقاتها في اللعب معه من غير أن يكون حاضرا بجسده معها، فصور والدها معلقة في كل غرف الشقة الصغيرة التي تسكن فيها، وعلى كل الجدران، وهي الآن تتقن فنون المسرح تماما لكي تعوض عن الغياب الطويل والأليم لوالدها. فعندما ترغب في شراء لعبة أو غرض ما فإنها تتجه نحو صورته وتطلب منه ذلك، ثم تغير صوتها ليكون مثل صوت أبيها لتحصل على إجابة أبوية حنونة بالإيجاب. ولأنها تعرف عن أبيها أنه يحب كرة القدم؛ ففضّلت أن تكون لعبتها المفضلة أيضا بالكرة، ولكن بطريقتها الخاصة، إذ تطلب من والدها المغيَّب أن يختار إحدى الكرات ويحدد اللون الذي يريده، لتظل هذه الكرات تراود خيالها الخصب بحضور والدها وليلعب معها.

في الوقت نفسه، يدير حسين، أبو زهراء، عيونه على منْ حوله من الجلاوزة والحراس، ويخبر زوجته عن كل واحد منهم، وكيف عذبه وأهانه منذ نقله من مبنى التحقيقات الجنائية إلى سجن جو في ١٩ أبريل ٢٠١٥. فما إن وصل حسين سرور إلى سجن جو؛ حتى انهالت عليه الضربات الموجعة على رأسه، وهم يعرفون جيدا مرضه بالجيوب الأنفية. وقتها، كانت ثورة سجن جو قد قُمعت بأشد وسائل القهر والعذاب، وكان المعتقلون يبيتون لياليهم وأيامهم في خيام منصوبة في باحة السجن. أحد الجلادين وضع حذاءه في فم حسين سرور إمعانا في الإهانة والتعذيب. قبلها كان طبيبُ مبنى التحقيقات الجنائية قد أوصى الضباط بعدم التعرض له بالتعذيب والضرب، وقال لهم إن تعرضه لأي نوع من التعذيب قد يزهق روحه نظرا لمرضه الشديد.

عُرف عن حسين سرور أنه قوي لا يعرف الإنكسار، فهو ذو شخصية متميزة في علاقاتها الاجتماعية، يحب لعبة كرة القدم كثيرا، لكنه لم يكن يجعلها تزاحم مساعدته لوالده في مزرعته في بلدة القرية. فقد كان يحرص أن يكون عونا وذراعا لوالده، يساعده في عمله بالزراعة ما استطاع إلى ذلك سبيلا. لهذا، لم يكن عجبا أن يزرعَ حبَّ الأرض في قلبه، كما يزرع في حقل أبيه.

اعتقل حسين قبل زواجه وتعرّض للتعذيب الشديد وقتها، وتم إخلاء سبيله في تهمة هو بريء منها تماما، حيث وجهت إليه الأجهزة الخليفية تهمة حرق سيارة شرطة في قريته. دليل براءته كان أوضح من دليل مثوله أمام النيابة، فكل التقارير والشهادات والإفادات أكدن أنه كان في عمله وقت اندلاع الحريق بسيارة الشرطة، ولكن هذا هو حيز القضاء في البحرين، وهو أن تُؤخذ بالتهمة ويُحكم عليك بالظن، وتتعرض للتعذيب انتقاما وتشفيا.

بعد إخلاء سبيله وعقد قرانه على أم زهراء، وبعد أسبوع من معرفته بحمل زوجته؛ أصدرت المحاكم الخليفية حكمها الجائر ضد حسين سرور وقضت عليه بالسجن ١٥ سنة، وكان عليه المثول لهم وقتها. لكنه اتخذ قرار الشجعان، فهو لن يذهب إليهم، كما أنه لن يهرب أيضا، بل سيمارس حياته الطبيعة وكأن شيئا لم يكن، لكن مع كثير من الحذر. فكان ينتقل من مكان لآخر هو وزوجته الحامل بابنته زهراء، يبيتون كل فترة في بيت أو مكان. واستمر الوضع هكذا مدة شهرين عندما اقتحمت قوة مدنية وعسكرية مكان عمله، في ١٥ أبريل ٢٠١٥م، وألقي القبض عليه تنفيذا للحكم الصادر عليه، ونُقل بعدها إلى مبنى التحقيقات الجنائية، حيث ظل هناك ثلاثة أيام ليُنقل بعدها إلى سجن جو. لا يحب حسين الحديث كثيرا عما لقيه في مبنى التحقيقات الجنائية – وكر جهاز الامن الوطني – لكي لا يؤذي أو يُشغل قلب زوجته. واصل حسين سيرته قويا ومتماسكا رغم كل الألم، وتقدمت عائلته باستئناف الحكم الصادر ضده فخُفّف من ١٥ سنة إلى عشر سنوات، وأيدت محكمة التمييز هذا الحكم رغم كل الأدلة التي قُدِّمت لبراءة حسين من التهم المنسوبة إليه.

بالرغم من حبه الشديد لابنته الصغيرة زهراء وشوقه الدائم لها، وهي المحرومة منه ومن أبوته؛ إلا أنه أصر على أن يشارك أخوته المعتقلين في إضرابهم عن الزيارات بعد أن تم وضع الحواجز وقُلّصت أوقات الزيارة، وأصبحت الزيارة عذابا يُضاف إلى عذاب العوائل، حتى انقضت سنة وعدة أشهر، وبعدها أُلغي الإضراب وعاد قسم من المعتقلين للزيارات مجددا.

لم يختلف حسين في زيارته عن شخصيته القوية المتماسكة، فظهر رابط الجأش، قوي العزيمة، ويسمع حكايات ابنته الصامتة والتي كانت تكتفي بملاعبة أصابعه من ثغرات الحاجز المقيت. لا يعرف أحد لماذا يتم حرمان طفلة ناعمة من إجلاء براءة طفولتها، ولماذا تُحرم من والدها ورؤيته وتقبيله كحال كل الأطفال والأولاد الذين يحظون بملاعبة وتقبيل والديهم. لن يجد المرء سوى تفسير الانتقام والتعذيب النفسي الممنهج لتفسير منع الأب من احتضان طفلته الصغيرة، وتقبيلها مثل أي أب في هذا العالم.

قصة حسين سرور وابنته هي حكاية من مئات الحكايات المطمورة بين جدران سجن جو السيء الصيت، والذي سينهار قريبا على رؤوس بانيه ومشغّليه، وليكون خروج الأبطال منه خروجا لا مثيل له.. ولحظة من لحظات الغضب الإلهي الذي سيزيل لا محالة كل صور الظلم من أرض البحرين.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى