ما وراء الخبر

التيار البائس في القطيف والأحساء: ماذا بعد تحويل العوامية إلى أنقاض؟

 

البحرين اليوم – (متابعات)

من اليسير أن يجد المرء تبريراً للذين يلوذون بالصمت حين تتكسّر من حولهم الخيارات، ولا يجدون حيلة ما في إنقاذ الموقف أو الخروج من الأزمة الصعبة. كذلك، يمكن أن يخترع العقل التبريري حججاً كثيرة، من الممكن التعاطي معها واستعمالها بالنسبة لأولئك الذين يختارون أسلوب الكناية والترميز المعقّد لوصف الأحوال، وذلك تجنّباً للانتقام والملاحقات المُرَّة من السلطة. ولكن ماذا بالنسبة للتيار “المحافظ والمتحفّظ” الذي لا يجد مانعاً من ركوب موجة السّلطة، والمضيّ معها، وابتكار شتّى الوسائل والألفاظ والأدوات لاجتناب إدانتها مباشرةً رغم ارتكابها لأبشع الجرائم وأوضحها للعيان؟!

الموالون للسّلطة، ابتداءاً وانتهاءاً، غير ملامين على أن يكونوا في وضعيّة التطبيل طيلة الوقت. هم مجهّزون، تلقائياً، لأداء هذه المهمة، ولا يجدون أدنى خلل أو تعارُض أو إرباك في أن يكونوا مع السّلطة، ولو انقلبت على نفسها أكثر من مرّة، أو دارت على نفسها دورةً كاملة ثم عادت إلى نقطة الصفر. الموالون الطبيعيون للسلطة لن يشعروا بأيّ حرج وهم يدورون في هذه الدائرة ويتشقلبون فيها، ماداموا يؤمنون بأنهم مع السلطة وورائها، فهي مصدر القوة ومنبع الحجّة الكافية، ويرون أن الانتماء لها والجري خلفها كافٍ لمنحهم التبرير المرضي والمريح.

ولكن ماذا عن أولئك الذين يتأرجون بين دائرة الولاء للسلطة، والانتماء إلى الدوائر الأخرى؟ دوائر العقيدة الدينية، الثقافة والفكر الحر، العمل الحقوقي، أو غير ذلك ممّا لا يرتبط بحقل السلطة التقليدية ويتعارض معها في الأساس.

يوجد في القطيف والأحساء تيار دينيّ تقليدي وجدَ نفسه غير بعيد عن المنطق التبريري الذي يشتغل عليه آل سعود، بما يمثلونه من سلطة قمعية واستبداديّة. بنى هذا التيار تحالفه المباشر، والضمني أحياناً، مع النظام السعوديّ مقابل اكتساب قوّة رمزيّة وماديّة ممنوحة من النظام، ومُحاطة بأمان اجتماعي واستقرار في أداء وظائف الوجاهة المجتمعية. حظي هذا التيار بأتباع من قطاعات الناس والنخبة على حدّ سواء، ومع الوقت تحوّل إلى ذراع ضاربة يستعملها النظام لأبلسة المعارضين وللتغطية على جرائمه. وبهذه الوظائف البنيوية خرج هذا التيار الديني تدريجيّاً من دائرته الطبيعية وبانسيابٍ ذكيّ في بعض الأحيان، ولاسيما مع ملاحظة الطبيعة الثقافية للمدرسة الشيعية وإرثها الفكري والتاريخي غير المتجانس مع أنظمة القمع والسلطات الدموية. انتهى هذا التيار لأن ينتشل معه كلّ الذين خروجوا من إرثهم السابق، ورأوا أن الوظائف الدينية الموازية – وأحياناً المؤيَّدة – من السلطات هي كافية لإشباع تبرير الانتماء للدائرة الدّينية، وبمعزل عن كلّ الاعتراضات الموجَّهة أو التعارضات الملموسة في ممارسات هذا التيار وتولّداته – النفعيّة والبراجماتية – التي طالت معارضين وثوريين سابقين، وخصوصا أولئك الذين يمثلهم تيار الشيخ حسن الصفّار، أحد أبرز الحالات الدّينيّة التي نجحت في بناء قاعدة بيانات مجهَّزة لتبرير الالتحاق بالسلطة السّعودية، والنأي عن الخروج على خطوطها الحمراء، ولو خرجت هذه السلطة على كلّ الخطوط.

Untitled

من المؤكد أن المخزون المعرفي الثري للشيخ الصّفار، والخطاب السّاحر الذي يتميّز به في كلّ حالاته وتبدّلاته السابقة واللاحقة وفّرت له ولتياره القدرة على أن يكون حاضراً بقوّة في القطيف والأحساء، وأن يبني شبكات ومنصّات وواجهات متعدّدة (في مجالات الإعلام، الحقوق، التثقيف الديني، البلديات، العمل الاجتماعي..) تولّت دور الترويج لأفكاره ولمدرسته الرماديّة، واحتضان أتباعه وإعدادهم بما يلزم من التوجيه والتدريب وقدرات الانتشار والتبرير. ولا شك أن كرم السلطة وخدّامها من الشّيعة كان له دوره الملموس في تقوية هذا التيار، ومدِّه بما يلزم من الرعاية، وبما يحقق رغبات السلطة السعودية التي ستكون – رغم كلّ ذلك وعلى الدّوام – تتوجّس خيفة من بنية القطيف والأحساء بعد أن اكتشفت أن بناءها الديني والاجتماعي من الممكن أن يُشجّع من غير مقدّمات ظاهرة أحيانا على تبريز وصناعة التمرُّد والمعارضة، سواءا على طريقة الشيخ الشهيد نمر النمر، أم على طريقة آية الله الشيخ حسين الراضي.

هذا النموذجان، بحق، كَسَرا كثيراً من الأنماط التي أرساها التيار المحافظ والمتحفّظ في القطيف والأحساء. ربّما يرى البعض أن الشيخين النمر والراضي استعجلا في الخروج على تلك الأنماط لكونها لا تزال سميكة، وحولها أتباع كُثر، وتحظى بإمكانات غير قليلة في صدِّ أية محاولة للتشكيك فيها ولإظهار ضعفها وهزالة بنائها الفكري، فضلا عن كشف تجاوزاتها العملية. إلا أنّ الأمور، في اللحظات التي تبدو ملحّة تاريخيّاً، لا تحتمل أن تُقْرأ من هذا المنظور الذي يرى فقط القوّة الظاهرة للخصوم أو المغايرين، بل إنّ الحاجة تكون ضروريّة حينها لاعتبار تلك القوّة السطحيّة حافزاً على مواجهتها، أي الخروج عليها عبر إنتاج الممارسة العكسيّة أو النقيضة لها، وهي الممارسة التي جرى تشخيصها في تقارير سابقة في (البحرين اليوم) ضمن عنوان الممارسة الحسينيّة. (اقرأ: هنا وهنا).

من أهم العوامل التي تُسهم في كشف علامات التهافت أو التعارض في الظواهر والممارسات؛ هو عامل الخروج العكسي المصحوب بتقديم نموذج مخالف أو تصحيحي. يُصبح هذا الأمر مؤثراً أكثر حينما يكون مرافقاً بانتفاض عام (شعبي). هذه الحال كانت ملحوظة حينما برز الشهيد الشيخ النمر وأعطى رسْما واضحا لما تكون عليه طبيعة الصمت عن الظلم، والخنوع للمجرم القاتل، وعلى أيّ نحو تبدو صورة الذين يختبئون داخل عباءاتهم الدّينية رغم أن بشاعة السلطة تطلب منهم أن يردّوا منكرا عاما. وقد ضخّم استشهاد الشيخ النمر هذه المكاشفة، في حين كان لمظلوميته غير الخانعة، بعد تنفيذ الإعدام، قوةّ إضافية في عمليّة تصغير العمل التبريري للمحافظين والمتحفظين في المنطقة الشرقية، وجعْل هذا العمل مساوقاً وشريكاً لفعل الجريمة نفسها التي ترتكبها السلطة.

من الممكن أن يُشتّت خطاب الشّيخ الصّفار بعض هذه النقود. في كلمة أخيرة دعا الصّفار لعدم قراءة تاريخ أئمة أهل البيت من حدّي الاعتزال والثورة، داعيا إلى قراءة تاريخهم خارج هذين الحدين، وضمن منهج الواقعية السياسية. قدّم الشيخ الصفار مطالعةً نظرية “ممتعة” لما يجب أن يفعله الأتباع غير الراغبين في الابتلاء بالصّدام والمواجهة مع ظلم السلطات، ولكنه لم يوضّح نظرياً على الأقل الطرق المنسجمة التي تحقق مباديء أصيلة من قبيل رد الظلم، وردع المجرم، وملاحقة القتلة. في هذا النموذج، الذي خرجَ عليه الشيخان النمر والراضي، يدور المنهج (أي الواقعية السياسية) حول المبدأ، وليس العكس. وهذا هو الجوهر الذهني الذي يفسّر عدم ممانعة المحافظين والمتحفظين في القطيف على التعايش مع القتلة والظالمين، وأن يحملوا على عاتقهم، مثلاً، عبء تحميل الشّبان المقاومين في العوامية مسؤولية الدمار غير المسبوق الذي حلّ بها بفعل هجمات جُند آل سعود.

آثار تأصُّل هذه “الجوهرانية التبريريّة” لصالح السلطة لا يقف عند هذا الحدّ. يندفع المبتلون بها لأن يُبعدوا عن السّلطة مسؤولية ما يتم فضحه من الجرائم. فالتعديات الطائفية التي قام بها الجنود السعوديون في مساجد العواميّة ومآتمها؛ هي أخطاء “فردية” لا تقبل بها السلطة، ولم يتأخر التبريريون في تلقّف كذبة نشرها أحدهم تقول بأن السلطة أوقفت المتهم بتلك التعديّات وأحالته للتحقيق. لن يُصاب هؤلاء بالتعارض الدماغي حينما يُقال لهم بأن الصور والفيديوهات كشفت أن “كلّ” الجنود شاركوا في الأهازيج الطائفية وحفلات الرقص على أنقاض المدينة وفوق دماء أهلها وجراحاتهم. هذا التعارض يتم امتصاصه سريعاً وتذويبه عبر حيلتين: الأولى تجاوز اللحظة الراهنة غير المُتاح فضحها عملاً بمنهج الواقعية السياسية، والثانية: إرسال الأمنيات والتمنيات بمستقبل أفضل للوطن، يعيش فيه الجميع متساوين وسعداء، أي التعويض عن الألم الدفين بافتعال دبكةٍ غنائية حول الوطن الجميل الذي يُتوقع من آل سعود المشاركة في بنائه!

وأكثر من ذلك، فإن ظلماً فادحاً يقع على الناس أو كبار المجتمع ورموزه، لا يستدعي – حسب الواقعية السياسيّة – الاعتراض عليه علناً، أو حتى الشعور الحزين به سرّا. لهذا السّبب، فإن الحكم الصادر أمس الثلاثاء، ٨ أغسطس ٢٠١٧م، على الشيخ الراضي بالسجن ١٣ سنة، لم يُحدِث في جموع المحافظين والمتحفظين – من الأصوليين والإخباريين، من التقليديين والحداثيين – أيّ اهتزاز في النظام العقلي أو في قانون الحسّ المشترك الجديد الخاص بهم. فالرّجل، رغم أنه فقيه ضليع وباحث معروف وكبير في السّن، إلا أنّ اختياره لأنْ يكون في مكان آخر غير الذي تدور فيه السلطة والموالون والمبرّرون لها؛ يجعل أمره ومصيره محسوباً عليه نفسه ولا يُلزمهم أخلاقيا وسياسياً بشيء. فهو المعنيّ بحاله وما ينزل عليه، ولا علاقة بذلك مع الدين لا يرتضون فعله واختياره. بمثل هذا النسق الدّفاعي يحمي “التيار البائس” نفسَه من السقوط في الجدال، ويمارس الهروب من الاتهامات، ولو كان سقوطه الأخلاقي والسياسيّ واضحاً ومتكرّراً وطريّاً مثل طراوة جرائم السلطة وانتهاكاتها، داخل البلاد وخارجها، وبحقّ الدار والجار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى