مقالات

المهمة المفقودة: الأهداف المرحلية لقوى المعارضة في البحرين

البحرين اليوم – (خاص)

بقلم: باقر المشهدي

كاتب متخصص في شؤون الخليج

 

من ضمن أهم الإشكاليات التي تواجه قوى المعارضة العربية عموما، والمعارضة البحرانية على وجه الخصوص، افتقادها للرؤية الإستراتيجية واكتفاء تلك القوى بطرح ما يسمى ببرامج العمل كبديل عن الرؤية الإستراتيجية. الفارق بين كلا الإصطلاحين يمكن تمييزه في قدرة الرؤية الإستراتيجية على تضمين نفسها مبادئ المراقبة والتقييم والمحاسبة، في حين أن برنامج العمل لا يشير إلا إلى تطلعات وأهداف غير محددة. ومن جهة أخرى؛ فإن الرؤية الإستراتيجية تتضمن أهدافا واضحة وقابلة للتنفيذ وفق خطة تنفيذية عملية، أما برنامج العمل فهو تنفيذ لخطوات تكتيكية تفقد قيمتها ما لم ترتبط برؤية إستراتيجية.

الإشكال الأساسي يقع في مستوى غياب الأهداف المرحلية أو المتوسطة المدى التي يمكن أن تضعها قوى المعارضة لتنفيذ رؤيتها أو برنامج عملها المعلن، والذي عادة ما يكون ضبابيا ومقتبسا من برامج أخرى غارقة في الشعاراتية والمثالية. وقد يكون هناك بالفعل رؤية إستراتيجية واضحة ومدققة لدى بعض التنظيمات، ويتم تداولها بشكل مستمر في الاجتماعات الداخلية؛ إلا أن هذا لا يمنع من وجود مظاهر الإشكالية نفسها، على الأقل لدى قطاع واسع من الجماهير أو مستوى القاعدة الجماهيرية الذي يفتقد للتواصل الفعال لمعرفة الأهداف المرحلية وتمييزها عن الأهداف الكلية المعلن عنها ضمن برامج العمل. فالحق أن قوى المعارضة لا تتوفر لديها إستراتيجيات سياسية واضحة مسبقة لمبررات تشكُّل المعارضة، ولهذا فإن كثيرا من التشكيك في أداء المعارضة ونيّاتها وعدم التوصُّل لقناعات متفق عليها بين الأطراف؛ هي ما تواجهه قوى المعارضة عمليا. وقد انعكس هذا الوضع على أداء قوى المعارضة محليا، سواء على مستوى التنظيمات أو على مستوى الجماهير والأفراد، وتسبّب في تراجع قوة المعارضة على تثبيت نفسها كطرف أساسي في بنية الدولة، وإلى حرمانها من تحقيق نجاحات أساسية تمكنها من حماية نفسها من التآكل أو النخبوية الحزبية.

التحول التاريخي

بالرجوع إلى البنية التاريخية الخاصة بعمل المعارضة يمكن ملاحظة أن مبررات المعارضة وخطابها قد اختلف مقارنة مع متطلبات الوضع الحالي. فهناك عدة عوامل محلية واجتماعية وربما دينية أيضا؛ شجعت في الماضي على تشكيل قوى معارضة، ولعبت دورا مهما في إضفاء شرعية العمل المعارض. وكانت أغلب تلك العوامل تقليدية في مطلقاتها من حيث تركيزها على رفع المظالم أو تلبية احتياجات معينة ومحدودة لبعض الناس. ولكن هذا الأمر يختلف تماما مع معطيات الدولة الحديثة التي تؤكد على أن المعارضة هي بنية رئيسية من بنى الدولة الهيكلية، وأن انطلاقتها يجب أن تكون منطلقة من أساسيين يتمثلان في تحقيق المصلحة الوطنية وفي القدرة على توفير أداة من أدوات السياسة تكون أكثر فاعلية وكفاءة لدعم عملية التنمية، فالمعارضة يجب أن تتوفر على مبان عقلانية لا مبان عاطفية وشخصانية.

يمكن تمييز ثلاث مراحل تاريخية مرت بها التنظيمات السياسية في البحرين عكست خلالها طبيعة التنظيمات السياسية وأداء عملها السياسي. ويمكن النظر إلى تلك الفترات التاريخية على أنها أنماط تنظيمية قابلة للتمدد وليس مراحل تاريخية جامدة.

– النمط الأول: تنظيمات الأعيان، وهو يمثل البداية الأولى للتنظيمات السياسية، حيث تكون العضوية فيها مقتصرة على بعض الأعيان، ولا توجد ضوابط تنظيمية سوى الاجتماعات بين أولئك الأفراد ثم التقدم بمطالب اجتماعية وسياسية للحكومة. وأيا يكن؛ فإن هذا النمط من التعامل مع إدارة الدولة كان يعتبر النمط الذي تفضله الحكومة لاعتبارات عديدة ليس هنا محلها، وقد جاهدت الحكومة على تثبيت هذا النمط من التعامل من خلال محاولة تقنين حراك الأعيان وربطهم بالجهاز الإداري مباشرة، كما في قانون المخاتير التابع لإدارة شؤون القرى أو من خلال الديوان الأميري وما يُعرف بالمجلس عند الحاكم أو أحد افراد العائلة الحاكمة.

– النمط الثاني: التنظيمات الحزبية الفرعية، وكانت بدايتها مع حركة القوميين العرب، سواء في بداياتها مطلع الثلاثينات أو عند تحولها لتنظيم سياسي في الخمسينات. وكانت تجارب التنظيمات عبارة عن امتدادات لحركات وتنظيمات عابرة للحدود، وبالتالي فالتنظيمات الحزبية في البحرين وفي المنطقة عموما؛ كانت فروعا لمراكز كبرى عادة ما تكون في العراق أو مصر.

النمط الثالث: التنظيمات السياسية الحديثة، وهي الفترة التي تحولت فيها التنظيمات الحزبية الفرعية إلى كيانات شبه مستقلة ينظمها قانون الجمعيات السياسية، ويمكن النظر إلى التنظيمات هنا على أنها قريبة من الأحزاب السياسية حتى وإنْ لم يكن القانون الناظم لها يعترف بها كأحزاب، إلا أن البنية الهيكلية للتنظيمات هي بنى حزبية إدارية.

المتتبع لتاريخ نشوء قوى المعارضة وتطورها يلاحظ قوة الخليفات الأيدولوجية في نشأتها، حيث نشأت أغلب القوى المعارضة استجابة لمتطلبات مراكز أشبه ما تكون بمراكز أممية عابرة للوطنية. وترجع سرعة استجابة الوسط البحراني لهذه المراكز إلى وجود أرضية سياسية محفزة من جهة، ومن جهة أخرى وجود أرضية مملؤة بالمظالم والحرمان الذي يدفع بالكثيرين إلى محاولة التخلص من تلك المظالم أو التقليل من آثارها السياسية والاجتماعية.

في حين يرجع البعض الآخر ذلك إلى خلل بنيوي وهيكلي تعيشه الدولة في البحرين حيث إنها تفتقد مقومات الدولة الحديثة ومقومات الهوية الوطنية الموحِّدة، مما يعني في نهاية المطاف عدم قدرة الدولة على حماية أفرادها وتلبية احتياجاتهم، فيتم اللجوء إلى الهويات الفرعية التي تنساق بدورها للالتئام مع قوى خارجية توفر لها التلاحم المفقود داخل الدولة. ويشير أكثر المحللين إلى أن غياب الهوية الوطنية الموحدة أو عدم قدرة الهوية المطروحة على استيعاب أغلب فئات الشعب؛ يدفع بالأفراد المعرَّضين للإقصاء أو النبذ إلى الاحتماء بهوياتهم الفرعية المرفوضة عمليا من قبل هوية النظام السياسي، وفي حالات عديدة يكون الاحتماء مشفوعا بانتماء – ولو عاطفي – مع هويات خارجية مشابهة للهوية المقصية سواء كان التشابه في العقيدة أو الرؤية السياسية، مما يخلق حزاما سياسيا يربط الهوية الفرعية بالهوية المركزية العابرة للحدود.

وإذا ما تم الاتفاق على أن جزءا كبيرا من موروث المعارضة في البحرين قد ارتبط بهويات عابرة للحدود سواء في نسخها الماركسية أو القومية أو الإسلامية؛ فإن اكتفاء قوى المعارضة ببرامج العمل أو الرؤى العمومية هو أمر طبيعي ومتوقع لسببين رئيسيين: السبب الأول أن المعركة التي خاضتها قوى المعارضة كانت معراك تتسم بالسرية والنخبوية في التخطيط، كما أن أدوات التقييم في فترات سابقة كانت تكتفي بالحضور الجماهيري كعلامة على تفوق الأداء والشرعية. والسبب الثاني هو أن جهود المعارضة وقتها كانت تتجه للتعبئة ومحاولة مقاومة الطغيان الرسمي.

 

الممارسة النقدية

من هنا نلحظ عدم دقة النقد الموجه لقوى المعارضة لكونه نقدا لا يخلو من مثالية مشابهة لمثالية الرؤى السياسية المعلنة، وكأن المطلوب من المعارضة سواء في مواقعها المتقدمة أو تلك المواقع المتراجعة أن تلبي الطموحات الشعبية فور ممارستها للعمل السياسي. من وجهة نظر نقدية أخرى، فإن الممارسة النقدية يجب عليها أن تعالج منطلقات العمل السياسي المعارض ومدى توفرها للكفاءة المطلوبة. وهذا يعني الاحتكام لمبادئ أعلى وعمومية لإتمام العملية النقدية، من حيث مدى تلاؤم بنية المعارضة هيكليا وخطابيا مع تلك المبادئ التي قد يطلق عليها بعض الأحيان مبادئ الحكم الرشيد.

ترجمة ذلك تعني أن العقود السابقة من عمل المعارضة كانت تفتقد لخطة عمل ملموسة وقابلة للمناقشة علانية، كما أن المعارضة كانت تفتقد أيضا عناصر تحديد الأهداف وتجزئتها وفقا لأهداف عامة وأخرى خاصة أو تقسيمها لأهداف طويلة الأمد وأخرى متوسطة وثالثة قصيرة.

ومن الطبيعي أيضا أن تكون أغلب تنظيمات المعارضة مع هذا الوضع غير معنية تماما بمبدأ المحاسبة والمراقبة وتقييم الأداء. الامر الذي يؤدى لأن تكون الحوافز والمكانة السياسية مرتهنة بمعايير خارجة عن طبيعية عمل المعارضة السياسية، من قبيل الصحبة والملازمة للقيادات العليا في التنظيم أو الفترة الزمنية التي يعمل فيها الفرد في التنظيم حتى وإن كان أداؤه صفرا او متعثرا، وغيرها من المعايير التي تكون نتائجها ترهُّل البناء التنظيمي وشيوع حالات فساد خفية بين قطاعات التنظيم.

لا يعني هذا أن قوى المعارضة لم تكن معنية تماما بالمراقبة وتقييم الأداء داخل أروقتها في التنظيم على الأقل وفي اجتماعاتها الخاصة، فمثل هذه الجهود لا يمكن إغفالها أو نفيها. لكنها في المقابل لم تكن ممنهجة، ولم تكن ذات فائدة مرجوة في إعادة ترتيب أولويات واهداف قوى المعارضة، فهذه التوجهات بحكم أن إمكانياتها الفنية محدودة؛ ليست قادرة حتى الآن على أن تقوم بتقويم ومحاسبة ومراقبة أداء المعارضة. ومثل هذا يجرى في اللقاءات السنوية أو الدورية، حيث يفسح المجال أمام القيادات لتبادل الآراء وإبداء الملاحظات فيما يخص عمل وأداء عمل المعارضة، وهو أسلوب لم يخلُ من إثارة حساسيات بل ورغبات في الانفصال أو الخروج عن التنظيم لكون الآراء المطروحة غير مستندة لرؤية خبيرة بقدر ما تعتمد على الانطباعات الشخصية والخبرات المحدودة التي ربما تكون خارج التنظيم أساسا.

يضاف إلى ذلك أن سلطة مخرجات تلك المناقشات ضئيلة جدا أمام سلطة القيادات الشخصية وسلطتهم التي يكتسبونها ليس من قوة التنظيم وهيكليته وإنما عبر جوانب شخصية ومعايير غير تنظيمة. وقد بدأت نتائج هذه الآثار من خلال بعض المقابلات التي أجريت مع عدد من المنطوين في تلك التنظيمات والاستطلاع لبعض الآراء التي أفصحت عن وجود ضبابية في التخطيط المرحلي سواء داخل البني الهيكلية أو في خطاب المعارضة العمومي. ويدافع البعض عن وجود مثل هذه الرؤية ومحاولة تمكينها وتوظيفها عمليا إلا أن بعض الظروف السياسية ربما تحول دون إتمام ذلك بشكل مرضي.

حتى لا تقع معارضة اليوم فيما وقعت فيه معارضة الماضي من تأجيل مسألة الديمقراطية الداخلية والتهاون في تثبيت الحكم الرشيد داخل أنظمتها؛ فإن طبيعة عمل قوى المعارضة وتحديد موقعها السياسي اليوم؛ يتحدد بمدى قدرتها على ملاءمة عملها مع متطلبات الحكم الرشيد الذي يوكد في جل أدبياته على مبادئ المراقبة والتقييم والمحاسبة. وهذا هو ما يشكل جوهر الممارسة النقدية لعمل قوى المعارضة،شريطة أن تكون الممارسة النقدية متعالية على التجريح الشخصي والانتحارية في النقد أو توظيف نتائج النقدية لتصفية الخصومات الأيديولوجية والحزبية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى