مقالاتنادر المتروك

جابر العلويات.. الشهيد الذي ألهبَ الطفولة

 

البحرين اليوم – (خاص)

نادر المتروك

كاتب من البحرين

بأكثر من تأثير غير واضح؛ أوقدَت فيّ حملة وطن تحت التعذيب، بمناسبة اليوم العالمي للتضامن مع الضحايا، ما كنتُ أظنّ أن دفنه في الذاكرة أنسبُ للإبقاء على جلاله الكريم. كان مجرّد مروره علينا، ونحن نلهو قرب برّادة المطوَّع“؛ باعثاً على اعتبار أن يومنا اكتسبَ شيئاً جديدا. في تلك الحقبة من عقد الثمانينات الأوّل، كان الأطفال أمثالنا يبالغون، ولكن بلا فضاضة، في التشبُّه بالشّبان والمراهقين الذين يبدون مختلفين، كما هو الحال في سيمياء الشهيد جابر العلويّات. كنتُ مولعاً، وفق حسابات الطفل وقتئذ، في الاقتراب من الأمكنة التي كان يجلس فيها الشهيد، ومحاولة تقليد طريقته في إظهارِ الحضور وإشباعِ أزقة قرية المصلّى بالحيوية والرسومات الجدارية. لاشك أن وسامته ألهبت فينا أحاسيس عديدةً لأجل الاندفاع بوهج الدُّنيا، وقد أجرينا محاولات عديدة  باءت بالفشل طبعاً  لأجلِ الانتساب إلى الإيقاع الساحر الذي كان يفعله العلويات ومريدوه وهم يرتدون ملابس أنيقة، ويجلبون إلى القرية أشياءَ كنّا نظن بأنها لا توجد في مكان آخر ولا يملكها أحد غيرهم.

لم يكن يزعجنا، نحن الصّغار، أنّ الشهيد تمنّع أن يمنحنا مباشرةً ما لديه، إنّما امتلأ شغفنا به حين كان يكتفي بإكسابنا المودّة والأمل في أننا يمكن أن نكون مثله، أو أقرب إليه، في التدفّق والابتهاج بالحياة، وأن علينا الاستمرار في محاولة اللحاق به، وعدم اليأس. تلك رسوماتٌ فعلت فعلها في عقلنا الطفولي، وأمّدتنا بتطلعاتٍ لم نكن نشعر  لخفّةِ حياتنا وانبساطها  بمفارقتها الجسيمة عن طبائع الأمور المعتادة في تلك القرية الوادعة، وحيث كان كلّ شيء يكاد يكون متشابهاً. انقطعت هذه الخطوط فجأة حينما اختفى الشهيد، وغابَ عن الأنظار طويلا. سنواتٌ مرّت على غيبته الغامضة عنّا، ولم يكن تغيُّر المكان والزمان لينزع منا تلك المشاعر المحفورة تجاه ذلك الشّاب الذي زادَ غيابُه حضورَه فينا، وعلى خلافِ ما كنّا نظنّ ونحن نجرّب تمريرَ طفولتنا بأحداث أخرى وتشبُّهاتٍ جديدة.

في نهاية الثمانينات، وفي الطريق القديمة المؤدية إلى حرم السيدة زينب في دمشق، فوجئتُ به وهو يعبر أمامي، وجهاً لوجه. كان عليَّ، كما ألحّت عليّ ذاكرتي القديمة معه، أن أمدّ يدي إليه، وأمسك بأطرافه وأصرخ باسمه. إلا أن الشّهيد مضى من أمامي سريعاً ومن غير أن يقول شيئا، ولم يُوقِف خطواته العاجلة لحظةً وهو يتناول الآيس كريم، ليغيب وسط الجموع الغفيرة التي اكتظت بالشارع العريض. كل ما أعطاني إيّاه في ذلك اللقاء العابر هي خطوط متقطعة من الابتسامة التي تشبه تماماً الابتسامات التي وزّعها علينا، من غير كلام، ونحن نراقبه عن قُرب صغاراً في القرية. مضت سنون أخرى، ودخلت علينا تجاربُ التسعينات التي عرّج عليها جيلي وهو معصوبُ الجبين.

بعد خروجي من السّجن، في العام ١٩٩٩م، حصل اللّقاء الذي لم أتوقعه. زارني الشهيد في المنزل. كان مختلفاً هذه المرّة. جاءني لكي يدعوني للمشاركة في حفل دينيّ في المصلّى، باستضافة مأتم البُني. في تلك المرحلة، فرضَ الوضع الأمنيّ قدراً من الإحجام لدى رجال الدين عن المشاركة في الاحتفالات العامة، وقد حدّثني الشهيد وهو يجلس في غرفتي عن هذه الحال، واستفاض وهو يشرحُ خطورة ذلك، وضرورة أن نبادر لسدّ هذا الفراغ. كانت صيغة الجمع تُشعرني بأنّ هناك غرائب تحيط بي. في الحقيقة، ورغم اهتمامي الأكيد بما كان يقوله الشهيد، إلا أن المخيّلة، وهو معي، كانت تشدّني شدّاً إلى زمن الطفولة. لقد بالغتُ في الاستماع إليه من غير كلامٍ كثير، واقتنصتُ هذا الصمت لكي أقارنَ على عجلٍ بين زمنينمرّا كلمح البصر، وكيف خطّط القدَرُ أن يحضُرني، أخيراً، هذا الذي كنّا نلاحقه أطفالاً من غير جدوى، وليتحدّث إليّ الآن مباشرةً، وبعد كلّ هذه الأحوال. لقد تغيّر كلّ شيء، فلا الشغف اليوم كما هو في تلك الأيّام، ولا منظر الشهيد وهندامه اليوم يُشبه في شيءٍ ما كنّا نراه يرتديه ويُظهره، حيث كنّا نقيس به، ورفاقه، آخرَ صيحات الموضة وأخلاق الفارس النبيل. لم يؤسّس الظهورُ غير المتوقع لبناء علاقةٍ جديدة. أظنّ أنني، لأسبابٍ لا واعية، لم أتحمّس كثيراً في التعلّق بالشهيد بعد أن أصبح متديّناً، وأضحى مختلفاً عن المثالِ الذي تعلّقنا به صغاراً. لقد أصبحنا متشابهين في الاهتمام الدّيني، بدرجاتٍ معينة، فما عاد هناك ما يُشعل فيّ ذلك الانشداد لاكتشافِ الغوامض والأسرار. مرّت سنواتٌ أخرى، وحوادث عاجلة، وعادت بنا التقلّبات إلى محضرٍ آخر، ما كان يخطر على البال.

هذه المرّة يخرج هو من السّجن، وكان عليّ أن أردّ على زيارته الأولى. وضعَ الشهيدُ بصماته في دوّار اللؤلؤة. صوته غير الخافت في لجّ الثورة؛ كان ينبيء أن خاطفَ عقول الأطفال على وشكِ أن يخطف مشاعرَ الجميع، وقد استعجلَ الآخرين وأعلن وصيته داخل خيام المعتصمين. بعد الهجومِ على الدّوار، ودخول قوات آل سعود، أُعتقل الشهيد في موجةِ القمع التي هبّت في كل الأنحاء. زمنٌ قصير داخل السجن كان كفيلا بأنْ يخرج الشهيد محمولاً بآلام العذاب، ليختم سجوده الأخير، في يونيو ٢٠١١م، في محراب الشهادة الذي دخله بعد أيام ثلاثة من إطلاق سراحه. كان عصيّاً عليّ أن أُعالج الذاكرة القديمة مع الشهيد، وظلّ هناك ما يدعو لإعادة تفسير كلّ الأشياء والمشاعر تجاه الشهيد، ومنذ أن انطبع في أذهاننا الصغيرة أنّ ابتسامته كانت وحدها التي تجعل طفولتنا أكثر براءةً وأقوى تحمُّلاً لتنمّرات الآخرين. هذه المحاولات اشتدّ أثرُها أكثر حين ارتحلَ، ابن خالي وابن عمتي، يوسف النشمي، إلى المكان نفسه الذي استقرّ فيه الشهداء، وبذات التابوت المشبع بعذابات السجون التي أكثرتْ من ولادة الجنائز.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى