مقالاتنادر المتروك

جلسة إلكينيكيّة مع وزير العدل

نادر المتروك - كاتب صحفي
نادر المتروك – كاتب صحفي

البحرين اليوم-(خاص)

     لديّ، يا سيدي، شيءٌ لا أعرفه يتمايلُ كلّ الوقت من مكانٍ ما، أسفل ظهري تحديداً. قبل أن أجلس على كرسيّ وزارة العدل، كنتُ مشغولاً بقراءة كتبٍ لا تُحصى حول الإصلاح الدّيني وعلاقة الدّين بالسّياسة. دعني أكونُ صريحاً معك، كان شيئاً آخر، يُشبه الحلزون، يتحرّك في جسمي وأنا أنهمكُ في القراءة. ظننتُ، للوهلةِ الأولى، بأنّ تفكيري بدأ يتغيّر، وأنّني صرْتُ مؤهلاً لأن أرتقي المنبر الدّيني، وأخطبَ في النّاس، وأغادرَ التّجارب القاسية التي مرّت عليّ وأنا صغير. لا أخفيك أنّ ذلك كان حلماً يراودني قبل أن أبلغ الحلم. كنتُ قبل أن أنام، أسمعُ صوت شيخ أزهريّ يطنّ في أذني. عليّ أن أعود إلى القاهرة قليلاً لكي أروي لك طفولتي المنتهكة.

     كنتُ ألعب الكرةَ في الحارة. لم أكن أسمح لأحدٍ أن يلعبَ معي. كنتُ أمرّر الكرةَ على جدار المنزل، فتعود إليّ بسرعةٍ، ثم أقذفها في الهواء من غير أن أتفقّد الجهة. لم يكن يجرؤ الصّبية، حولي، على التقاطها واللّعب بها. لا أريد أحدا في ملعبي، وعلى الجميع أن يقف مسافة مترين أو ثلاثة، ومشاهدتي وأنا أتسلّى مع نفسي. لا شكّ أنّك سمعت عن “البلطجية”. كانوا كلّهم في جيبي، أطلبهم ساعةَ أريد ليقوموا بالواجب. كانت مصر جميلةً، قبل أن تبدأ مأساتي الأولى.

    مرّ رجلُ دين، عليه ملامحٌ غريبة، ولم يكن يرتدي ملابسَ الأزهر. عبرت الكرةُ مترين بعيدا عني، وسكنتْ عند قدميه. نسيتُ الكرةَ، وفتحت عيوني كلّها على بنيته الصّلبة. كان عملاقاً. التمعتْ في ذهني صورةُ “إنْجانجو”، ذلك المجرم المخيف في مسلسل “توم سوير”. قدمي لم تسعفني على الحركة، ولساني حسبتُه أُصيب بالشّلل. حرّكتُ رقبتي، بصعوبةٍ، وبحثتُ عن أحدٍ أدفعَ له لكي يدفعَ عنّي خطراً كنتُ أظنّه بات وشيكاً. لم أجد أحداً. ثوانٍ وإذا بالرّجل أمامي مباشرةً، لا يفصله عنّي سوى الكرة التي حملها بيدٍ واحدة، ووضعَ اليد الأخرى في مكان آخر من جسمي. أسفل ظهري تحديداً. وقال لي: “إذا رأيتك تلعب هنا من جديدٍ، فسوف أغرزُ الكرة خلْفك”. لا أتذكر كيف انتهى المشهد، ولكنّي لم أنتبه لنفسي إلا فوق السّرير، أتصبّب عرقاً. رغم الحمى التي لازمتي أسبوعاً، إلا أنّني اتفقتُ مع نفسي على قرارٍ مصيري: “الانتقام”.

    كان الأمرُ يسيراً. عندما جئت البحرين وضعتُ عيني، دون تردّد، على الوزارة التي يتجمّع فيها رجالُ الدّين. هذا هو الصّيدُ الذي أبحث عنه. تسألني، سيدي، لماذا اخترتُ أسلوبَ المواجهة اليوم مع هؤلاء. أعرفُ أنّ هؤلاء ليسوا منّ “استهدفوا” شرفي وأنا صغير. ولكنّي أريد أن أكون مثل الكرةِ، وأن يتم قذفي بالطريقة التي أحبّ. أريد أن أُقْذَف بها، ومعها، في كلّ مكان. الشّدةُ تُمتعني، وأصلُ معها ذروةَ الإنتشاء. لا أخفيك أنّني أشعر بالرّاحة وأنا أراهم يستنفرون ضدّي. فرحتُ – وكأني بلغتُ هدفي في الانتقام – عندما قرأتُ بيانهم وهو يعلنون أنهم “مستهدفون في وجودهم وهويتهم”.

سهرتُ ليلتها طويلاً وأنا أحتفل مع نفسي بهذا الانتصار، وكنتُ بين الفينة والأخرى أحاولُ أن أنظر خلفي، أسفل ظهري، لكي أبارك لها بلوغَ هذه اللّحظة. ربّما هم يعدّون لجولةٍ من المواجهة العكسيّة. ذلك يفرحني أيضاً، صدّقني! لماذا؟ لا أعرف الجواب. قد تكتشفه أنت حينما أخبرك أنّني أحنّ إلى “البلطجية” الذين كانوا ينفذون أوامري. أشعرُ أنّني قريبٌ منهم كلّما كنتُ كرةً مقذوفةً. كنت أحبّ، في طفولتي، أن أكون قاذفاً، ولكن منذ تلك الحادثة، بدأتُ أفرح بالوضع العسكي. أحلمُ في اليوم الذي أصلُ، أنا الكرةُ، إلى قدم لرجل دين. ساعتها قد أنتقمُ منه، ومن كلِّ رجال الدّين. ماذا سأفعل، تسألني؟ لا أعرف، ولكني لن أنسحب هذه المرّة، ولن أسمح لأحدٍ أن يلمس “شرفي”، أو ما تبقّى منه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى