ملفات

سجلات القبيلة الغازية: عقدة الأصول المجهولة لدى آل خليفة – الحلقة الأولى

البحرين اليوم – (ملفات)

 

 

غموض الأصل الذي تنحدر منه قبيلة آل خليفة ومكان انحدارها؛ يثير العديد من علامات الاستفهام حول الراوية الرسمية التي يتم العمل على تسويقها بوصفها أصلا تاريخيا متفقا عليه، وعلاقة ذلك بما يمكن تسميته بالشتات أو” التيه القبائلي”، وهو ما سيترك علامة فارقة في تأسيس الهوية الذاتية لقبيلة آل خليفة، وإستراتيجيات بناء الأساطير المؤسّسة للأسلاف، وكيف يتم توظيف كل ذلك في علاقات الصراع والتحالف وتحديد الأعداء.

يمكن التأكيد هنا على أن إستراتيجية الاحتماء بالأصول الكبرى، والانتماء إليها؛ تشكل واحدة من أهم العقبات التي تواجه الراوية الرسمية التي تسردها أدبيات عائلة آل خليفة. فالانتساب إلى قبيلة “عنزة” أو “نجد” دون التحديد الدقيق؛ يعني عدم القدرة على إثبات الانتساب فعلا، والبقاء في وضعية المجهول، خصوصا إذا ما تم معاضدة هذا الغموض بأعراف الانتساب القبلي السائدة آنذاك، والقوانين التي تُتيح للمجهولين أن يُبرزوا أنفسهم من خلال الالتحام مع القبائل القوية والمعروفة، وإلى درجة أن يستموا باسمها وينتسبوا إليها لاحقا.

 

الأصول المجهولة

 

ليس من بين الوثائق التاريخية ما يثبت وجود اسم العتوب قبل نهاية القرن السابع عشر، حيث تخلو المصادر التاريخية من تتبُّع أخبار العتوب قبل هذا التاريخ. يؤكد ذلك خلوّ المصادر البرتغالية – التي رصدت منطقة الخليج منذ القرن السادس عشر وحتى بدايات القرن السابع عشر – من ذكر العتوب، أو ما يشير إلى تواجدهم على السواحل العربية في الخليج. وبالمثل؛ فإن مؤرخي نجد مثل: أحمد بن محمد بن عبدالله البسام (ت 1040هـ تقريباً)، وأحمد بن محمد المنقور ( 1067-1125هـ)، ومحمد بن ربيعة بن محمد العوسجي (1065-1158 هـ)، وحسين بن غنام (ت 1225هـ/1810م)؛ لا يأتون على ذكر مسمَّى العتوب ضمن قبائل وأعيان نجد. وهذا يعني أن لقب العتوب تم اختراعه وقت ظهورهم قوةً سياسيةً، أو أنه تم تسميتهم به من قبل آخرين كانوا قربيين منهم.

ويثير عبدالعزيز الرشيد مجموعة من الآراء في شأن أصل العتوب عموما، والمكان الذي انحدروا منه أساسا، فيقول: “اختلف في وطنهم الأصلي الذي كانوا فيه زمن صباح الأول جدّهم الأكبر، فقيل كانوا في نجران، وقيل بل تحدّروا من خيبر، والصحيح إنهم كانوا في الهدّار من مقاطعة الأفلاج من نجد“. (عبدالعزيزالرشيد: “تاريخ الكويت”، ج1 ،ص13). والتحقيق أن “خيبر” تعتبر من أطراف شمال نجد، وكان يقع تحت عنزة، (شكري الألوسي: “تاريخ نجد”، ص 31). وإذا ما صحّ انتساب العتوب “آل خليفة” إلى عنزة فيكون أصلهم متحدِّر من خيبر.

في كل الأحوال، فإن هجرتهم ونزوحهم من مكان أصلهم تخضع أيضا لتفسيرات واجتهادات، منها ما تعرضت له الجزيرة من قحط في أواخر القرن السابع عشر مما أدى إلى قلة الخيرات بالنسبة لعدد القبائل، وسُمي هذا القحط العظيم (صلهام)، وقد أهلك فيه عددا كبيرا من الناس والدواب وذلك في وادي عدوان، واستمر من سنة 1076هـ ـ 1078هـ (1665م ـ 1667م).

وقد ذكر المؤرخون أن نهاية القرن الهجري الثاني عشر كانت سنوات قحط وجفاف ارتفعت فيها الأسعار، واختفت فيها المؤن والمواد الغذائية، ومات فيها خلق وبهائم كُثر، وعُرف هذا القحط بـ “دولاب” كما ذكر عثمان بن بشر. أما الفاخري فوصفه قائلاً: “وفي سنة سبع وسبعين بعد الألف ( 1666م) اشتد الغلا، وأكلت الميتات والكلاب. أما في نجد فالأمر عظيم، فإن أهل مكة باعوا المتاع والحوايج، وفيهم من باع أولاده، وفيهم من رمى بهم“. وقد استمر هذا القحط إلى أن انتهي في 1200 هـ / 1785م كما يقول الفاخري: “وبمطلع القرن الجديد آنذاك وهو عام 1200هـ انتهت سنوات القحط وكثر الخصب ورخص الطعام حتى إن عام 1208هـ عُرف عند الأهالي آنذاك بسنة (موّاسي)“. وفي هذه الفترة الحرجة اقتصاديا ظهرت بوادر الدعوة الوهابية أيضا، وأخذت ملامح الدعوة في الانتشار منذ 1152هـ/ 1739 حتى 1158هـ/ 1745م عندما توطدت الدعوة الوهابية في الدرعية وباقي مناطق نجد. (عثمان بن بشر، “عنوان المجد في تاريخ نجد”، ج1). وبناءاً عليه فيمكن أن تكون هجرتهم قد حدثت سنة 1076هـ 1666م.

في كل الأحوال، فقد دفع هذا القحط بعض القبائل إلى الهجرة صوب مناطق غنية بالخيرات، مثل العراق والأحساء وسواحل الخليج، ونظرة فاحصة لما أورده ابن بشر، وتاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد في تلك الحقبة التاريخية؛ يدلل على ما ذهبنا إليه. ومن أشهر القبائل التي نزحت من نجد إلى العراق والشام في هذه الفترة؛ بعض البطون من قبيلة عنزة، وهم (العمارات) الذين اتجهوا نحو العراق، و(الرولة) نحو الشام، و( الفدعان) نحو الجزيرة الفراتية، و(السبعة)  باتجاه حماه. وسبب هجرتهم كانت نتيجة لحرب مع بعض القبائل العربية، تم إجلاء عنزة من نجد، وبقيت بقية من عنزة وهم ساكنو القرى، ومنهم (جميلة)، سكان قرى الهدار، فطمع فيهم الدواسر، وانتهزوا فرصة خلاف وقع بين الجميلين، فناصرت الدواسر بعضهم على البعض الآخر.

وفيما يتعلق بوجهة النزوح؛ فإن المتوقع أن تكون بعض القبائل اتجهت ناحية سواحل الخليج باتجاه الأحساء والقطيف، تمليها الظروف الطبوغرافية، بالإضافة إلى الظروف الاقتصادية ووجود آبار المياه والشعاب التي تدفع بالتالي المهاجرين صوب ساحل الخليج من أرض الاحساء فالبحرين، ذلك الساحل الغني بزراعة التمور والفواكه والخضراوت وغيرها، وبالمياه العذبة من عيون وآبار، مع النشاط التجاري والملاحي الهام، وهي كلها عوامل جذبت المهاجرين. كما إن لأهالي نجد طريقهم الخاصة في تبادل البضائع التجارية عبر بر قطر. ويسلك الآتي من الأفلاج إلى قطر والأحساء طريقين، أحدهما يمر من (يبرين)، ثم (الخن) و (الجيب)، فـ( مباك)، ثم أخيرا صوب (سلوى) في قطر. ويُرجَّح أن هذه الطريق التي سلكها العتوب من شعب الهدار حتى الأحساء فقطر، ثم البحرين،

والذي يظهر من تتبع مجريات الأحداث أن هذه الأسر والمجموعات النازحة لم تكن معتادة على الحياة الحضرية لكونهم أعرابا أو بدوا يرعون الماشية والأبل، فلم يكونوا من أهل الحضر، الأمر الذي أوجد لديهم صدمة حضارية تُضاف إلى صدمة النزوح الكبير الذي خضعوا له رغم اعتيادهم على الارتحال. وهكذا، ونتيجة لتتالي القحط والأوبئة في أواخر القرن الحادي عشر؛ فقد أصبحت البلاد في ضائقة اقتصادية، وهلك الكثير من الناس بسبب القحط، ونشبت الحروب بين القبائل في إطار التنازع على البقاء، بسبب قلة خيرات البلاد نتيجة تعرُّضها للكوارث الطبيعية المتتالية، وهنا ينطبق عليهم قول أحد أدباء سدير في قصيدة جاء فيها:

غدا الناس أثلاث فثلث شريد يلاوي صليب البين عار وجائع

وثلث إلى بطن الثرى دفن ميت وثلث إلى الأرياف جال وناجح

فالهجرة والنزوح إلى الأرياف إشارة واضحة على عدم اعتيادهم عليها، وتأصل الطبيعة البدوية في نمط حياتهم. وهذا يقوى ركاكة تفسير أن تلك الأسر قد عرفت ركوب السفن من خلال الأنهار التي كانت في منطقة الأفلاج، إذ أن تلك الأنهر كانت صغيرة، ولا تحتمل السفن أصلا، أو أن تُكسب مجاوريها مهارة التحضر وبناء السفن وركوب البحر.

 

العتوب: البدو والاستخدام الحربي

 

وقد صادف تواجدهم في منطقة الأحساء والقطيف ظهور قوة سياسية جديدة هي قوة “الخوالد”ويدعون (آل حميد) الذين استفادوا من ضعف العثمانيين في الأحساء فورثوا نفوذهم. وكان براك بن عرير الخالدي أول من تولى وأسس حكم آل عرير. ويصف المؤرخون براك بأنه كان مندفعا في حروبه ورغبته في التمدُّد والسيطرة على كامل المنطقة، مما يعني حاجته الملحة إلى قوات محاربة وقوات إمداد تعينه على تحقيق أهدافه ورغبته في بناء دولته. وبالفعل، وجد براك بن عرير الأسر النازحة والمهاجرة معينةً له في حروبه التي كان يستعد بها من أجل ضم الأحساء والقطيف لملكه.

فقبل هذا التاريخ، يمكن القول أن تسميتهم كانت عامة جدا حيث لم يكونوا معروفين باعتبارهم قوة سياسية، أو حتى بوصفهم قوة قبلية معتد بها، وربما أطلق عليهم “البدو” في تعبير يشير إلى أنهم قوة بشرية يمكن استخدامها في الحروب، مقابل الحصول على غنائم. وهذا ما يمكن تأكيده عبر تتبع ظهورهم في الأحساء والقطيف عندما تحالفوا مع “براك بن عرير الخالدي” مؤسس دولة بنى خالد سنة 1671، فعندما قرر غزو القطيف كانوا معه، وقد كافأهم على ذلك بأن وهب لهم بستان نخيل في القطيف، وسمح لهم بالسكن في منطقة فريحة غرب قطر، وقد أرخ أحد شعراء القطيف هذا الحدث بقوله:

رأيت البدو والحميد لما   تولوا أحدثو في الخط ظلما

وهذا يتفق أيضا مع الراوية الرسمية لآل خليفة، التي تسرد في تفاصيل أصول قبيلة آل خليفة أنه بعد أن “تم الأمر لبني خالد وسيطروا على المنطقة سمح لهم براك آل عرير بالسكن في منطقة فريحة شمال قطر تحت إمرة آل مسلم، ثم إنهم اشتغلوا بالتجارة واستطاعوا تكوين أسطول تجاري أبحروا به إلى الهند وغيرها من بلدان التجارة..”.

 

الشتات الطويل.. والحكاية المخترعة

 

في كل الأحوال؛ فإن تتبع وثائق البدايات لا يبدو أنه مجد تماما بسبب تشكك قبيلة آل خليفة في الروايات المنقولة شفاهياً، وهذا ما أكده محمد بن عيسى آل خليفة في رسالته إلى سيف الشملان المؤرخة بعام 1955 بخصوص سؤاله عن رحلة العتوب قبل استقرارهم في الكويت، فأجاب بعد سرد الراوية المتداولة من أنهم ينحدرون من عنزة من قبيلة العمارات بوادي نجد، وأن هجرتهم كانت بسبب فتن نشبت بينهم وبين الدواسر، ثم يقول في نهاية رسالته: “.. حرصت أن أجد دلائل تثبت كيف محدار آل خليفة وآل الصباح وعلى أي طريق فلم أجد ما اعتمد عليه..”. والأرجح أن آل خليفة وآل صباح نزحوا من مقاطعة الأفلاج في نجد بعد أن اجتمعت بطون الدواسر، فزحفوا على مناطق سكن آل خليفة وآل صباح، وأخرجوهم ومنْ معهم من الأسر والجماعات.

ويسرد الشملان بعضا من قصص الشتات الذي مرت بها هذه الجماعات ونزوحهم المتكرر عن البلاد التي يسعون لاستيطانها، ولهذا يرجح الكثير من المؤرخين أن لفظ العتوب هو إشارة لمسار الشتات الطويل الذي رافق هذه القبائل، وأن اشتراكهم في جد واحد هو حكاية مخترعة لاحقا وتأسست بعد الاستقرار. فقبيلة عنزة قبيلة عربية كبيرة جدا، ويسهل الانتساب لها، أما المكان الذي قصدتها هذه القبائل المجتمعة فكان “ساحل بر قطر” الواقع تحت زعامة بني خالد، ويحكمها من قبله ” آل مسلم”، وبعد مدة من الاستقرار في “بر قطر” تشاجرت قبائل العتوب مع آل مسلم، ونزحوا مرة أخرى إلى جزيرة قيس التابعة لإيران، ومجموعة أخرى استوطنت سواحل فارس، وهناك عمل بعضهم في الغوص والتجارة، وبعضهم احترف الإغارة على القوافل وسلب الطرق.

ويرجح بعض المؤرخين أن لفظ العتوب لحق هذه الجماعات بعد ارتحالهم من الجنوب شمالا إلى الكويت، أي أنهم عتبوا الى الشمال، إلا أن هذا لا يتفق مع تواريخ الشتات الذي مرّوا بها، وأنهم عُرفوا بالعتوب قبل استقرارهم في الكويت بداية القرن الثامن عشر. فهذا الشتات ظل مستمرا ومؤثرا في تاريخ ارتحال المجموعات القبيلة المتحالفة مع بعضها البعض، وكان من ضمن أنماط التحالف العربية أن تلتحق القبائل الصغيرة أو المجموعات الضعيفة بقبيلة كبيرة قوية تحتمي بها، وتدخل تحت سيادتها، وقد انتسب آل خليفة – كقبيلة أو مجموعة صغيرة وضعيفة – بقبيلة “آل بن علي” الكبيرة والمعروفة النسب، وهي تنحدر من بني عتبة، فيقال لهم “العتبي”، والذي يبدو أن اسم العتوب قد جاء من هذا الانتساب، وليس من الارتحال كما قيل سابقا. وهذا ينفي الصحة عن استنتاج أبو حاكمة من أن العتوب أسسوا لهم دولة في منطقة العدان، بدليل ما يورده أبو حاكمة نفسه من أن “صباح وخليفة” – الأجداد الأوائل لكل من آل صباح وآل خليفة – لم يكونا يعرفان كزعيمين لجماعتهما عندما وصلوا الكويت في 1716.

 

النتيجة التاريخية

 

وبعيدا عن مناقشة الأصول التاريخية، نفضل الاحتماء بالنتيجة التي أوصلتنا إليه مجموعة من الأبحاث المتخصصة من أن القبائل المعروفة اليوم بالعتوب؛ كانت عبارة عن مجموعات ضعيفة وصغيرة نزحت من بوادي نجد، ثم التحقت بقبائل آل بن علي، ومنه جاءت نسبة العتوب لهم، وقد ارتحلت هذه القبائل بعد استقرارهم في بر قطر فترة من الزمن إلى سواحل بر فارس، ومن هناك عمل بعضهم في الغوص والتجارة، وبعضهم في الإغارة وسلب الطرق، ثم تم طردهم من ساحل بر فارس، واستقروا في الكويت تحت حكم “سلمان بن محمد آل حميد” حاكم بني خالد، ولما انتهت دولة بني خالد استقلوا بحكم الكويت في بداية النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

وفي أغلب الظن أن أسرة آل خليفة ساعدوا آل عرير في استيلائهم على القطيف، حيث استقبلوهم عند هجرتهم وأسكنوهم بين ظهرانيهم حين كان لبني عريعر السيطرة على سواحل الأحساء. ثم إن العتوب استقروا في قرية (فريحة) قرب (الزبارة) في قطر، وفي ميناء يقابل البحرين. وكانت قطر آنذاك تحت إمارة (آل مسلم)، وهم من بني خالد، ويستمدون سلطانهم من آل عريعر. إلا أن هذا الاستقرار لم يبرح أن تعرّض للشتات مجددا بعد حوادث وقعت بين تلك الأسر النازحة وبين الهولة الذين كانوا يمتهنون غوص اللؤلؤ والتجارة الداخلية بين سواحل الخليج.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى