مقالات

مملكة الفوضى: فانتازيا انهيار العائلة الحاكمة في البحرين

البحرين اليوم – (خاص)

بقلم: باقر المشهدي

كاتب متخصص في شؤون الخليج

 

استكمالا لما تقدم في مقال سابق حول “مملكة الفوضى” من أن منطقة الخليج باتت تحت تأثير “الفنتازيا” السياسية بدلا من حالة الثبات التي اتسم بها النظام الإقليمي لعدة عقود، حيث انتهى بنا المطاف إلى أن عائلة آل خليفة في البحرين تعيش اليوم في أسوأ حالاتها غموضا، وأنها تدير خلافاتها تحت وطأة التحولات الفجائية القوية التي يرى البعض أنها قد تطيح بتماسك العائلة ونظامها الداخلي أو أنها تضطر لأن تدخل صراعا عنيفا يعيد ذاكرتها للصراع العنيف الذي نشأ بين علي بن خليفة وأخيه محمد بن خليفة، وكيف انتهى الصراع بمقتل علي بن خليفة على يد أخيه محمد، ومن ثم نفي محمد إلى اليمن على يد الانجليز، وتعيين عيسى نجل المقتول علي حاكما على البحرين بعد أن كان لاجئا في قطر.

بطبيعة الحال؛ لن تكون الصورة الدموية هو ما سوف يحدث، ولن يُسمح لأي طرف خليفي أن يكرر طابع الانقلاب بصورة دموية، إلا أن مخرجات الصراع قد تكون متشابهة، بمعنى أن أهم نتائج الصراع الدموي التي استمر لأكثر من ١٥ عاما بين فروع آل خليفة أفضى إلى استبدال الحاكم وفرعه، كما فرض مزيدا من التقييد السيادي للحكم عبر تقديم تنازلات مفتوحة لبعض الأطراف الدولية وقتها، مثل توقيع اتفاقيات الحماية مع بريطانيا أو اتفاقيات الحماية التي عقدها محمد بن خليفة مع إيران وتركيا.

هذا الاستنتاج أو الاستشراف يحثنا على إعادة بحث محفزات التحولات الفجائية التي ربما يقال أنها قد تفضي لتحولات جوهرية داخل العائلة الحاكمة في البحرين. وسأحاول هنا استعراض ثلاثة محفزات تهدد بقاء العائلة الخليفية في سدة الحكم، ويُتوقع أنها تساهم كثيرا في فرط تماسك عائلة ال خليفة وانحلال عصبتها السياسية الحالية، إما إلى تفكك يؤدي للانهيار أو لاستبدال تلك العصبية بعصبية أخرى.

 

الاقتصاد وعمل العصابة

 

أحد اهم تلك المحفزات وأولها هو الانهيار الاقتصادي الذي لحق بخزينة الدولة جراء البذخ والفساد المالي، الأمر الذي رفع الدين العام لأكثر من ٧٠٪ وهو ما يؤدي إلى عجز الدولة عن تسديد النفقات التشغيلية العادية لأجهزة الدولة. والامر لا يتوقف على البذخ والفساد بقدر ما يتصل بسوء الإدارة المالية للدولة التي تُستنزف عمليا في النفقات العسكرية والأمنية بما يتجاوز ثلث الموازنة. ينعكس هذا العجز المالي على وضع العائلة الحاكمة بصورة مباشرة وتصبح مداخيل أعضاء الاسرة غير كافية لشهية السرقة والفساد والسلوك السيء في كسب الشرعية.

وفي الواقع؛ فإن عائلة آل خليفة تُعتبر الأفقر اقتصاديا بين عوائل الحكم في الخليج، لكنها في الوقت نفسه العائلة الأكثر عددا بين تلك العوائل، وكلما تضاءل الدخل الاقتصادي كلما زادت صراعات العائلة على كمية السرقات ونوعيتها. وهذا يعني أن تختار العائلة خيارات قاسية للحفاظ على تماسكها السياسي والإبقاء على وضعيتها المتسلطة والفاسدة. من بين تلك الخيارات أن تلجأ بعض الأطراف القوية أو النافذة إلى إبعاد أطراف أخرى أو تقليص نفوذها الأمر الذي سيخلق صراعات مخفية تارة وعلنية تارة أخرى بين تلك الأطراف. فإذا افترضنا أن جناح خليفة سلمان رئيس الوزراء يخوض صراعا مع جناح ولي العهد سلمان حمد أو جناح وزير الديوان أو جناح الحاكم الخليفي حمد عيسى فإن معدلات التصفية ستكون قاسية ومؤلمة للعائلة الحاكمة.

وهذا ما يؤكده بعض المراقبين الذين يقولون إن الصراع الدائر حاليا بين رئيس الوزراء والديوان الملكي – وبحسب بعض التسريبات – يقوم على فكرة استقالة رئيس الوزراء من منصبه تمهيدا لإعادة تدوير العائلة الحاكمة وحصر النفوذ والقوة السياسية في طرف وحيد كما كانت سابقا.

في المقابل؛ فإن رئيس الوزراء يشترط شروطا تعجيزية لإمضاء هذه الصفقة، من بينها اشتراطه الحصول على مبلغ ثلاثة مليارات وضمان منصب سياسي متقدم لأحد أحفاده في رئاسة الوزراء، بالإضافة إلى حفل رسمي وكبير بين دول الخليج لكي يتنازل عن منصب رئاسة الوزراء.

لهذا وأمام العجز المالي وتعثر الاقتصاد المحلي؛ يتحول الصراع الاقتصادي إلى صراع سياسي يطيح بتماسك العائلة وثبات آليات التحاكم التي كانت سائدة لعدة عقود.

 

الخوالد.. عودة المنتقم

 

المحفز الثاني الذي يمكن الإشارة إليه هنا، وهو محفز يعتبره البعض من ضمن المحفزات القذرة؛ هو بروز طرف جديد في معادلة الحكم الخليفي. والمقصود به ما يعرف بجناح الخوالد. المعروف تاريخيا أن فترة حكم الجد الأعلى للعائلة الحاكمة عيسى بن علي كانت من أقسى فترات التسلط والهيمنة، وكان أخوة عيسى بن علي يعيثون فساد وإفسادا في البلاد وفقا لتعاليم عصابات المافيا الكبيرة التي تحدث عن طبيعة نظامها الاقتصادي المفكر الاقتصاد العالمي منصور ويسلون في كتابه “المال والسلطة”. في كل الأحوال؛ فإن الأخ الأصغر لعيسى بن علي خالد كان الأكثر قسوة ودموية في تعاطيه مع الناس الذين يقعون تحت حكمه. وقد عزل عن الحكم وحكم عليه بالنفي نظير تورطه في قضايا قتل أهالي سترة فترة إدخال الإصلاحات الإدارية البريطانية بعد عزل الحاكم عيسى بن علي. ورغم حالة الإقصاء التي لحقت بسلمان وإبراهيم أبناء خالد بن علي؛ إلا أن عيسى سلمان تزوج حصة إحدى حفيدات خالد بن علي، وهي والدة حمد عيسى الحاكم الحالي. هذا الارتباط الدموي الذي يربط حمد عيسى والخوالد الجدد (خالد أحمد وأخوه خليفة أحمد) عبر عنه حمد عيسى في مقال نشره في فبراير ٢٠٠٥ تحت عنوان: “حلمت بوطن يحتضن كل أبنائه”؛ أشار فيه إلى سعيه لمعالجة ما اعتبره خطأ تاريخيا لحق بأبناء عمه من جده الأعلى عيسى بن علي حيث كتب في مقاله: ” تركت فكرة «الابعاد» عن الوطن من قبل الأجنبي أعمق آثار الألم في النفس منذ الطفولة وقد تعمق لدينا هذا الألم شخصيا وإنسانيا عندما أدركنا في سن مبكرة أيضا أن جدنا من ناحية الأم الشيخ سلمان بن ابراهيم آل خليفة قد تم نفيه مع والده كذلك من البحرين الى قطر، حيث ولدت الوالدة الكريمة هناك بعيدا عن الأسرة وشمل الأهل، مما غرس في النفس البذرة القوية للنفور من إجراءات الإبعاد”. وفي الواقع فإن تقريب حمد عيسى لوزير الديوان وأخيه “المشير”؛ يعتبر من هذه الناحية بمثابة التعويض السياسي الذي يطالب به أحفاد خالد بن علي القاتل والمجرم والمنفي عن البلاد.

نتيجة لذلك؛ فإن رجوع الخوالد إلى القصر الملكي رافقه صعودهم وتقوية نفوذهم بشكل لا يطاق لدرجة أن أصبحت البلاد تدار مباشرة من خلال الديوان الملكي الذي يترأسه خالد أحمد، وهذا ما يعتبره خليفة سلمان رئيس الوزراء خرقا لقواعد التوريث السياسي وتذكرة باهظة الثمن ستدفعها الأسرة جراء السماح لهم بالعودة للحكم. وقد تحدث العديد من الباحثين حول صعود الخوالد كطرف نافذ وقوي داخل الأسرة الحاكمة، وتم التطرق كثيرا إلى تنامي رغبتهم في استلام منصب رئاسة الوزراء بشكل مباشر أو غير مباشر، وكل ذلك يصب في مصب التغييرات الفجائية التي قد تصيب العائلة الحاكمة في البحرين، وقد تُحدث تغيرات فنتازية غير متوقعة.

 

شبح “الاسكندر الأكبر”

 

المحفز الثالث والأخير الذي ستناوله هنا هو التحولات الكبيرة والعميقة في الدول الداعمة للعائلة الحاكمة في البحرين، والمقصود بها كل من السعودية والإمارات، والأوضاع التي انتهت إليه هذه الدول عبر تغييرات كبيرة في إستراتيجيات الحكم وسياسات الإتباع التي تفرضها على عائلة آل خليفة في البحرين. ففي الوقت الذي راهن فيه حمد عيسى على بقاء سلالة عبدالله في السعودية، وقام بتزويج ابنه خالد بإحدى بنات عبدالله؛ جاء ولي عهد السعودية محمد بن سلمان وأطاح بكل الترتيبات القبلية التي حاول حمد عيسى إرسائها لضمان تماسك عائلته. وبالمثل، فإن الأزمة الاقتصادية التي عصفت بإمارة دبي في ٢٠٠٩م وتحول قوتها الاقتصادية بالكامل إلى إمارة ابوظبي، ومن ثم بروز محمد بن زايد باعتباره الرجل الأقوى في المنطقة؛ كل هذا أفقد زواج ناصر نجل حمد عيسى من ابنة محمد راشد آل مكتوم؛ أهميته الاقتصادية والسياسية.

العنصر الأهم في هذا السياق يبقى في الطابع التوسعي أو صيغة “الاسكندر الأكبر” التي يحاول كل من محمد بن سلمان ومحمد بن زايد أن يظهرا بها أمام العالم، وهذا يعني أن تقدم عائلة آل خليفة تنازلات عديدة في شئونها الداخلية لصالح تلك الصيغ العسكرية التوسعة. مع ذلك؛ فإن الانهيار الاقتصادي الذي يلاحق تلك الممالك الهشة أو “مدن الملح” – بتعبير الراحل عبدالرحمن منيف – يعني ترك العائلة الحاكمة في البحرين وحيدة أمام تحدياتها الداخلية، بما فيها التحديات الاقتصادية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى