مقالات

من أحاديث “#العصفورة_الشريرة”: في أحوالِ الصّحافة والصّحافيين (٤)

حسن كاظم – كاتب بحراني | خاص البحرين اليوم ..

لم يكن من السّهلِ عليّ أنْ أغلقَ النّافذةَ على العصفورة. لقد كان الطقسُ باردا، والرّياحُ هبّت على حين غرّة. كنتُ أريد فقط أن أستريحَ قليلا، قبل أن تهبّ عليّ هذه العصفورة بريحِ أسئلتها الشّريرة، وخصوصا وأنا كنتُ أراها يوم أمس تشاهد يوتيوب، وأسمعُ صوتا يصدر منه ذكّرني بصوت عمرو أديب وشلّة الإعلاميين “البلْطَج”.

تحدّثَ في الفيديو شخصٌ معارض، من قناة إلكترونيّة تقول بأنها تعبّر عن صوت البحرين وشعبها، ولكن من بلاد اللّجوء الأوروبيّ الباردة. في الفترةِ الأخيرة، هبطَ علينا أنفارٌ “مستنفرة”، بإبداعاتٍ منفّرة، لا علاقة لهم بالإعلام، ظنّا منهم أنّهم نشطاء خارقون، وكأنّنا أمام سعيد الحمد، ولكن بالنّسخة “المعارِضة”.

ضربت العصفورةُ بمنقارها على زجاج النّافذة. تجاهلتها قليلا، ثمّ رقّ قلبي، وفتحتُ النّافذة. “لقد كنتُ في الخارج منذ مدّة، ألم ترني؟! لقد انحنى ذيْلي.. وتطايرَ ريْشي من البرد، وجناحاي ترتجفان!”.

لم يكن سؤالها ينتظرُ منّي جوابا، كانت كعادتها تسألُ لكي تتحايلَ عليّ، وتدخلَ في أسئلةٍ أخرى. “لم أرك تتفاعل يوم أمس مع حديث المعارض في يوتيوب! كنتُ أظنّك ستكون مسرورا بعد أن أصبح للمعارضين أصوات ومنابر إعلاميّة!؟”.
أنْ أتفاعلَ أو لا أتفاعل هذا أمرٌ خاصٌّ بي، ولا يهمّ النّاسَ، ولا أظنّ أنّني في موقع أو مكانةٍ تسمحُ لي أنْ أصدّرَ مواقفي النفسيّة، أو مشاعر الشّخصيّة، أو ظنوني الذاتيّة، وأدعو النّاس إليها والتحلّق حولها. أنا مجرّد كاتب، يكتبُ عن الصّحافة والإعلاميين هذه الأيّام، لا أكثر ولا أقل. هذا أولا، ثانيا يا عصفورة، منْ قال لك أنّني كنتُ أتابع الفيديو؟ في الحقيقةِ، لم يكن ذهني ولا نفسيّتي في حالٍ تُسعفني على التركيز في متابعته، رغم أن شغلي في الكتابة يُلزمني الاطّلاعَ كلّ شيء، الغثّ والسّمين، من الشّمال واليمين. لكن ذلك الصّوت الذي طفرَ من الفيديو أثارَ فيّ الغثيان، ولم أتمالك نفسي، وهذا أمرٌ نادرا ما يحصلُ لي، بعد أن ظننتُ أنّ مناعتي على مرّ السّنين أصبحت قويّة ضدّ الهراء والهيستيريا والمهاترات.

أكثر ما يُزعجني هو أن يمارسَ معارضون (وخاصّة الجُدد الذين يريدون أن يكونوا إعلاميين عظماء غصبا عنّا وعن الذين خلّفونا) نفسَ أساليب النّظام في التّعاطي مع إخوانهم أو رفاقهم من النّشطاء والمعارضين. تخيّلي ذلك! هذا غيرُ مريح أبدا، وليس فيه لا خيرٌ ولا فائدة، إلاّ الـ”show” والتّنفيس عن العُقد و”الأنا” المتضخّمة (متضخّمة.. وعلى الفاضي!). ليس هناك إبداعٌ إعلاميّ يجذبُ المتابعين، ولا انتصار سياسيّ يسرّ المظلومين، ولا لُطف أو ظرافة تُمْتِعُ النّاسَ وترتقي بذائقتهم. وهذا أكثر ما نبتلي به في منصّات الإعلام المعارض التي تفرّخت مؤخّرا من الملاجئ والمنافي.

“ألا تعتقد بأنّك تبالغ كثيرا في هذا الكلام؟ لماذا لا تعتبر أنّها محاولات وتجارب، ومن الممكن أن تتطوّر مع الوقت؟!”.
حتى لا أُتّهم بأنّني من حزبِ “أعداء المواهب الجديدة”، وصاحب مشاكل، فسوف أوضح رأيي بمثالٍ ناجح من بلادي. يستطيعُ خالد المبارك أن يقول الكثيرَ بقليلٍ من الكلام المهذّب. لا يحتاج خالد أن يغيّر هندامه ولا طريقة منامه، ولا أن يلبس صديري في الصّيف والشتاء، أو يضع خاتما بفصٍّ فيروزيّ كأنه جبل الدّخان، أو يحمل معه كوب شاي أطول من شاشة اللابتوب ويحتسيه وهو يتحدّث مع النّاس. كلّ هذه الاستعراضات وغيرها لا يحتاجها خالد لأنّه يعرف التّعامل مع الميكرفون، ويجيد أسلوبَ الحديث اللائق مع الجمهور، من غير اللّجوء إلى “أدوات” التّكاذب والإيحاء الكاريكاتوري بأنّ هناك “فريق إعداد” ينتظرُ منه الإشارة ليُجهّز له المواد على الهواء مباشرة. ربّما لأنّ الرّجل حِرّيف صحافة، ولكن أيضا لأنّه يتحدّثُ بلباقةٍ، بلا تعالٍ ولا ادّعاء ولا عنجهيّة. ولهذا السّبب لا ينال خالد “الدّعم والرّعاية” التي يحظى بها المراهقُ عمر فاروق، الذي أعلن التّوبة (غير النّصوحة) من شتائمه الطّائفيّة أيّام ٢٠١١م، بعد أن أصبح “التّسامحُ” الموضةَ الرّائجة التي يتغنّج بها جماعاتُ اليوتيوبرز خلف الشّاشاتِ وفي مؤتمرات دبي لكي يُظهِروا كَرَمهم على فقراءِ العالم، في الوقت الذي يدسونَ فيه على كرامات المواطنين والمقيمين الفقراء في بلادهم. سوف أعودُ إلى هذا اليوتيوبرز المراهق، في وقتٍ آخر، لأنّني أخشى بالفعلِ أن ينطليَ على البعض من بلادنا ويصبحَ “أيقونة” للإعلام الجديد في البحرين، وهو ليس سوى صناعة مخابراتيّة بامتياز.

“إذن.. ما الذي تنصحُ به الذين يظهرون أو يديرون الإعلام المعارض؟”.
لقد أضحكتني يا عصفورة! أنا أنصحُ!؟ ومنْ.. الإعلام المعارض؟! يا قلبي.. ويا رئتي.. ويا معدتي التي تهتزّ الآن من أسفلٍ إلى أعلى! هل تعلمين بأنّ هناك منْ هو خيرٌ منّي آلاف المرّات، نَصَحَهم مرارا وتكرارا، مرّات ومرّات، بالعبارات والإشارات، واضطّر أن يشدّ عليهم أحيانا بما من شأنه أنْ يقلبَهم رأسا على عقب، ولكنّهم ما غيّروا لا مكانا، ولا لسانا، ولا حالا، وظلّوا على ما هم عليه، وعزاؤهم أنّهم معارضون، وما يفعلونه من أخطاءٍ وفداحات هي قابلةٌ للعفو والغفران! هل تريدين أن أنصحَ أناسا يظنّون أنّ الإعلامَ فرصةٌ للارتزاق، وأنّ الصّحافة مثل شرْب الشّيشة وشاي الكرك.. وأكْل التّبولة والمسبّحة؟! أنصحُ إعلاميين وصحافيين يبدأ نهارُهم بعد صلاة الظّهر؟! يا ويلي وويل الذي معي! أنا أنصحُكِ، يا عصفورة، أن تغرُبي عن وجهي الآن، الآن.. الآن، قبل أنْ أريكِ بعضَ ما يريه هؤلاء العباقرة ضدّ منْ يختلفون معهم!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى