مقالاتمقالات

من أحاديث “#العصفورة_الشريرة”: في أحوالِ الصّحافة والصّحافيين (١)

حسن كاظم – كاتب بحراني | خاص البحرين اليوم ..

تسألُني العصفورةُ الشّريرة: “لماذا من السّهلِ أنْ تصبحَ الصّحافةُ (والإعلام) طريقا محفوفا بالقوائمِ غير المريحةِ من الأخلاق؟”. في السّنواتِ الأخيرة، عندما تسألني العصفورة؛ فإنّني أتردّد قليلا، وأحيانا كثيرا، في الإجابة. ليس لأنّي لا أملكُ جوابا، ولكن لأنّها “شريرة”، وأخشى ردودَ أفعالها من وراءِ ظهري.

في مرّةٍ من المرّات، قبل أعوام، سألتني وأنا أقرأ عمودَ “قهوة الصّباح”: “منْ هو الكاتبُ الصّحافيُّ المفضّل لديك؟”، قلتُ لها بكلّ براءةٍ وحُسن نيّة: “حافظ الشّيخ صالح”. في اليوم التّالي، فوجئتُ أسفلَ العمارةِ التي أسكنُ فيها بأكوامٍ من القمامة، وعليها رايةٌ منصوبٌ عليها: “يسقط الطّائفيّ حافظ الشّيخ”. أذكرُ يومها أنّ جيرانيّ سألوني: “منْ هو حافظ الشّيخ؟”.

كان المذكورُ نشرَ في حسابه عبر “تويتر”، في العام ٢٠١٤م، تغريداتٍ وصفَ فيها شيعة البحرين بأنّهم “جالية” في هذه البلاد، رامياً معتقداتهم بالبدعةِ والخرافة، مع سيْلٍ طويلٍ من نعوتِ الازدراءِ على علمائهم ومرجعيّاتهم الدّينيّة. كانَ ذلك على وقْع الحدثِ السّوري، بعد العام ٢٠١١م، والصّعود الدّاعشيّ هناك، وبعد أنْ احتدمَت المعركة ضدّ المسلّحين التّكفيريين في سوريا والعراق.

لقد نشرَ حافظ الشّيخ هذه المسبّات وهو مُسِنٌّ، وعلى وشكِ أن يودِّع الدّنيا، وأبدى حرْصَا، غير اعتياديّ، على أنْ يستجمعَ جُلَّ المعجم الدّاعشيّ، ويُلصقه على وجوهِ أغلبيّة السّكان في البحرين: (المجوس، المبتدعة، والعمائم السّوداء!). “إذن”، قالتْ لي العصفورةُ الشّريرة: “الاحتجاجُ الذي قام به مجهولون على حقّ؟! إنّه طائفيٌّ حدّ النّخاع!”. كنتُ غاضبا في حينه، وليسَ في أحسنِ أحوالي، فَأشحْتُ بوجهي عن العصفورة، وصرختُ عليها: “لا تقربي من نافذتي اليوم، وتعالي غدا، وأشرحُ لكِ، لعلّ وعسى تفهمين!”.

كان حافظ الشّيخ من كتّاب “أخبار الخليج”، الصّحيفة المحسوبة على رئيس الوزراء السّابق خليفة بن سلمان (توفي في ٢٠٢٠م). وقد تميّز عمودُه بإتقانٍ في البناءِ اللّغوي، حاولَ عقيل سوار أن يتشابَه معه أو يتشبّه به مع تحليةٍ من إرثه المسرحيّ. أضفى عليه انتماؤه الإخواني، السّابقُ، القدرةَ على المناورةِ في الخطابِ وفي فنون التوقُّح اللّزج، فكانَ يتلوّنُ، ويتشكّلُ برشاقةٍ، وبحسبِ أجواءِ الطّقس، وتحوّلاتِ الأزمان والكراسي. احتمى بالمحرّق، تلبّسَ ثوبَها الوطنيّ العريق، واشْتعلَ فيه ذلك الشّعورُ الخفيُّ، الخطيرُ، الذي يوحي لصاحبهِ بأنّه “استوى على عرْش صاحبةِ الجلالة”، وباتَ مشروعا أنْ يقولَ ما يشاء، وفي كلّ الأشياء، من غير ملامةٍ من أحدٍ ولا خشيةٍ من انتقاد.

ولعمريّ، إنّ الكاتبَ أو الصّحافيّ وقتَ يلبسه هذا الشّعور؛ فإنّ علينا أن نبدأ في حصْد الأخطاءِ وفواحش الأقوالِ والأفعال. ولكن: “هل هذا تفسيرٌ مقنعٌ لكي تعتبره من أفضل كتّاب الصّحافة؟”. انفتحت أساريري، خِفْيةً، فالعصفورةُ الشّريرة بدأت تسألُ بشكلٍ صحيح. إنّ لي طريقتي في تصنيفِ المفضّلين من كتّابِ الصّحف، وهي طريقةٌ لا أُنْكرُ أنّها خبيثة، أو على الأقل هي طريقةٌ “خاصّةٌ” غير قابلةٍ للتّعميم، ولا تصلحُ للتّرويج، أبدا. بالنسبةِ لي، أيّتها العصفورة، فإنّي لا أقرأ في صحافتنا من أجلِ اكتشافِ الحقيقة، أو الوصول إلى معرفةٍ بيضاء، بل إنّني أبحثُ عن الحقائق المزيّفة، وأنقّبُ عن الطّرائق الجديدة التي يستعملها الكتّابُ من أجل تطريز التّزوير، وتزييف الوعي، وإنعاش الجهل المركّب.

والحقيقةُ، في رأيي طبعا، إنّ قلةً من كتّابنا منْ يُجيد ذلك. فريد أحمد حسن، مثلا، فاشلٌ في ذلك، رغم محاولاته الحثيثة، وكذلك سعيد الحمد الذي يعجزُ، في أواخرِ عمره، عن تملُّكِ “فحولةِ” الكتابة (مع الاعتذار للذّكوريين، والذّكوريّات). سوسن الشّاعر تجتهدُ في هذا الأمر، في مرّاتٍ كثيرة، ولكن فجاجةَ مصادرها الأمنيّة والمخابراتيّة تجعلُ مقالاتها تتأرجحُ بين التّقرير الأمني، وبين “دَعَاوِي النّسوان” (مع الاعتذار للنّسويين، والنّسويّات). لا أريدُ الآن أنْ أشرحَ أكثر، ولكن حافظ الشّيخ كان أكثر براعةً من ذلك كلّه. لم يكنْ على شاكلةِ “محفوظ عجب”، الصّحافي الوصوليّ، الذي كتبَ عنه موسى صبري في رواية “دموع صاحبة الجلالة”، رغم المؤهّلات الشّخصيّة الفذّة التي كان يمتلكها محفوظ، ولكن ما ينتشرُ اليوم، يمينا وشمالا، في صحافتنا، هو أدنى بكثيرٍ من ذلك، فهنا كتّابٌ بلا مؤهّلات، لم يتركوا أثرا لامعا في فنون “الارتزاق المُبدع”، وهم لا يمانعون في أنْ يكونوا خائبين وكسالى، يسرقون من غيرهم، وينشرون بأسمائهم ما يصلهم عبر بريد الدّيوان، وغير الدّيوان، ويعتبرون ذلك، بكلّ فرَح أبله، إخلاصا للوطنِ وانتماء لا حدود له لصاحبِ السّلطان. خذْي مثلا المسكين أسامة الماجد، أو لولوة بودلامة التي لا حولَ لها ولا قوّة إلا بالارتزاقِ المريح. سوف نعودُ إلى هؤلاء وغيرهم، ولكنّي أُنهي جملتي عن حافظ الشّيخ، وأقولُ، وصّدقيني يا عصفورة، بأنّني أشعرُ بحنينٍ كبيرٍ إلى كتاباتهِ الأولى، ما حَسُنَ منها وما سَاء، لا فرقَ عندي الآن. لقد كان المرءُ يستمتعُ وهو يقرأ طائفيّاته ومغالطاته، ويستأنسُ في تفكيكِ فكِّها المفترس، أمّا مع ضياء الموسوي وفيصل الشّيخ، أو ما تنشره علينا بثينة خليفة قاسم وبقيّة المصائب التي يرعاها أنور عبدالرحمن ونجيب يعقوب الحمر وغيرهما؛ فهؤلاء نضطّرُ لقراءتهم لكي نحلّل الرّوبيّتين (أو الرّوبيّتين والعشرين فلسا) التي نشتري بها هذه الأوراق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى