المنامةتقاريرما وراء الخبر

متابعات: الراحل السيد جواد الوداعي.. خسارة الحوزة والمعارضة والمجتمع

Capture

البحرين اليوم – (خاص)

 

متابعات

ما وراء الخبر

 

شكّل العلامة الراحل السيد جواد الوداعيّ (1923-2016) نموذجاً مختلفاً لرجل الدين في البحرين.

على مدى العقود الثلاثة الماضية، تبلورت نماذج معيارية متعددة لرجال الدين في البلاد، وكان الموقف من السلطة، وطبيعة العلاقة مع المجتمع، الأساسَ الذي تم بموجبه تصنيف العلماء وتحديد “درجة” التعاطي معهم، سلباً أو إيجابا.

في هذه العقود التي تشكل فيها الوعي الديني الجديد، كان نموذج رجل الدين القريب من السلطة، أو الموالي لها، هو النموذج الأكثر سلباً لدى الناس، وبلغ التعاطي معه، أحيانا، درجات “قاسية” من النبذ والإزدراء والمقاطعة في بعض الحالات.

هذا التنصيف الحاد جعل من “رجال الدين” الموالين للنظام غير مؤهلين للتأثير على الناس، وكان استعمال النظام لهم فاشلا، لجهة ثني المواطنين عن خياراتهم، أو جرّ المجتمع العام إلى التقارب مع المشاريع التي لا تحظى بتأييد الصّنف الآخر من العلماء غير المحسوبين على النظام، وممّن يمثلون وعياً خارج “الحدود التقليدية” للعمامة.

في بعض المراحل، وصل هذا الإفراز حدوداً قاسية، وانتقلت إلى داخل العلاقات بين الأفراد والعوائل والبلدات. ومن ذلك ما حصل في فترة انتفاضة التسعينات، وظهور مصطلح “المدني” قبال “الجمري”، للإشارة إلى موقف الراحل الشيخ سليمان المدني (1939 – 2003).، وموقف الراحل الشيخ عبد الأمير الجمري (1937 – 2006)، وكيف كان التباين بين هذين الموقفين على طول الانتفاضة وعرضها.

وبين يسار السلطة ويمينها، كان هناك نموذج رجل الدين غير المحسوب على السلطة، ولكن غير المُصنّف في دائرة الخروج عليها؛ وهو من النماذج النادرة في مجتمع العلماء البحرانيين.

العلامة الراحل السيد جواد الوداعي قد يكون الطبعة الأكثر مرونة، وإيجابية، للنموذج المُشار إليه.

في المسار التاريخي للراحل، كان حرْصه يتركز على إنجاح خيارٍ يتحرّك بين ظاهرتي “المدني” و”الجمري” (بما هما حالتان دينيتان، وليس شخصيْن مجردين). هذه المرونة تنطوي على إيجابيّة بالنسبة لعموم الناس في البحرين، لكونها مرونة منحازة نحو الأفق الاجتماعي والثقافي الذي تعبّر عنه ظاهرة “الجمري”، أكثر من ظاهرة “المدني”. وهي “مرونة منحازة” اختارت ألا تتورّط في التوتر، أو الاستقطاب، أو الإثارة، أو التحزّب السلبي.

كيف استطاع “الانحياز” أن يكون “مرنا”، أو كيف أُتيح للمرونة أن تُمارس “الانحياز”؟

المعالم الشخصية للراحل أسهمت بشكل كبير في صناعة هذه التركيبة. وأهم هذه المعالم هو الجانبُ الأكثر ارتباطاً بالجانب الأخلاقي والسلوكي، أي سماتِ الورع، والزهد، والترفّع عن المركزية السياسية أو الوجاهة الاجتماعية أو الاستثمار الوظيفي للمكانة الدينية. وأضفى كِبرُ سنّه، وعِتق تربيته الدينية على يد أشهر مراجع الدين؛ الغلافَ الخاص الذي مكّنه من المزاوجة التلقائية بين التكوين الديني لـ “الخوئي” و”الصدر”، ولـ “الحكيم” و”الخميني”. وهو مزَاوَجةٌ تُلاقِي بين هذه المدارس، ولا تنفّر بينها. وهو ما جعل الراحل مكانا يُتاح لكلّ المدارس الدينية أن تمرّ عليه، وتلتقي به، وتحظى برعايته، والتشرّف به.

 

سُكون الراحل ووقاره، كان موازيا لمشاركته في الموقف المؤيد لمطالب انتفاضة التسعينات، ولاحقاً مطالب ثورة 14 فبراير. وقد شيّد الراحل طريقته الخاصة في هذه المشاركة، وهي طريقة كانت تقوم على شكل إظهار الأبوّة، والرعاية المعنوية، والاحتضان الروحي، وذلك من خلال:

– حضور المهرجانات الشعبية للمعارضة، وأحيانا مع جلوسه في السيارة، والوقوف عند هامش المهرجانات ودون الجلوس في المقدّمة.

– تقديم التعازي في مجالس تأبين الشهداء.

– زيارة المعتقلين المفرَج عنهم، أو تبادل الزيارة مع الرموز السياسيّة المعروفة بخياراتها الممانعة في المناسبات المختلفة.

– التوقيع على بيانات العلماء الكبار الخاصة بالوضع السياسيّ والعام.

– المشاركة الشخصية في المناسبات الدينية والاجتماعية المركزية (موكب علماء الدين العاشورائي في العاصمة المنامة مثلا).

 

قليلةٌ هي البيانات المنفردة التي أصدرها الراحل في شأن الواقع السياسي المحلي (قد يكون أبرزها، وربما آخرها، بيانه في 23 أغسطس 2011 الذي استنكر فيه تعدّي وزير العدل الخليفي على آية الله الشيخ عيسى قاسم)، ولكن رابطته مع الشيخ عيسى قاسم خاصةً، ومع العلماء الذين شاركوه في مقطع كبير من حياته الدينية الأولى؛ جعله مفتوحاً على التلاقي مع خيارات هؤلاء على صعيد التفكير السياسيّ والاجتماعي والثقافي.

لم يرتقِ الراحل منبرَ الخطاب السياسيّ، إلا أن أشكال الأبوّة المذكورة أعلاه كانت في مستوى قوّة الخطاب السياسيّ للمعارضة، وكانت الأخيرة تعتبره لذلك رافداً لها، ودعامة تستند عليها.

رغم كونه كان قليل الكلام، ويكاد يكون صوته همْساً، إلا أن أبويّته كانت صوتاً مؤثراً في الموقف المعارض بالبحرين، وهو ما يجعل رحيله خسارة حقيقيّة للمعارضة، كما هي خسارة للحوزة، وللمجتمع، ولأولئك الذين يجدون الأنس والعلم في مجلسه العامر.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى