تقارير

:: وجوه الثورة :: الشيخ ميرزا المحروس.. الرمز الذي غلبه التواضعُ وغلبَ أهوالَ السجن والجلادين

 

البحرين اليوم – (وجوه الثورة)

الشيخ عبدالله المحروس، المشهور بالشيخ ميرزا المحروس، من مواليد العاصمة المنامة في العام ١٩٦٥م. يحمل شهادة الدكتوراه في العلوم الإسلامية، وسجلّه في النشاط السياسي والحقوقي يمتدّ على طوال الفعاليات والبرامج التي مخّضت ولادة “تيار الممانعة”، وبعدها. إلا أنّ هذا الوجه الثائر غلبه التواضعُ، جنباً إلى جنب مع حبّ الناس الذين كانوا يرونه بينهم في كلّ المرات التي اشتاقوا فيها لرؤية “عمامة” تواسيهم وتُذكّرهم بأن العلماء، كما تعلّموا وحفظوا من الآباء والأجداد؛ هم أوّلُ الأصوات وأعلاها في مقارعة الظالمين، ولو ارتفعت المشانق وانتشر العساكر من كلّ الجهات.

لكن هذا الوجه المتواضع والمائل نحو الهدوء؛ لم يترك الساحات مذ آن أوان شقِّ طريقٍ آخر لإبطال مفعول “السحر الخليفي” الذي سلب عقول البعض والتحقوا وراءه وهم يروجون للمشروع “الإصلاحي”. كان مشروعا “تخريبيا” كما اكتشف الشيخ المحروس وصحبه في وقت مبكّر، وهو اكتشاف تبيّن أكثر مع انكشاف مشروع “تغيير التركيبة السكانية” للبلاد، كما يقول الشيخ الذي طبعَ بصمته في مشروع مناهضٍ لهذا المخطط دشّنته جماعات الممانعة قبل اندلاع ثورة ١٤ فبراير بسنوات. رفقته الخاصة مع الشيخ محمد حبيب المقداد تعطي عنوانا مكمِّلا لشخصيته التي آثرت أن تجمع بين الثورة والعطاء، بين رفض الظالمين والقتلة ومساعدة المحتاجين والأيتام، بين العمل السياسي والميداني والخدمة الاجتماعية والأسرية. بالنسبة له، فإن المطلوب “بناء مجتمع سليم ومتدين”، ويكون قاعدة صلبة لردع سموم التخريب الآتية من التجنيس والتمييز واستعباد السكان الأصليين.

كان مع الممانعين بلا تردّد، وكان حاضرا معهم حضور المؤمن بما يقول ويفعل، ولم يكن طارئاً في هذا التيار الذي تنفّس داخله شبّانُ ثورة اللؤلؤة وتبرعموا فيه مثل جذوع النهار. كان الشيخ المحروس عنصرا مُحرِّكاً  في طليعة كل المشاريع: العريضة الداعية لكتابة دستور جديد، العريضة الداعية لتنحية خليفة سلمان، والعريضة الداعية لمحاكمة الجلادين والقتلة. لم يكتف بضمِّ اسمه إلى العرائض، أو الصّدح على المنابر، بل كان يجد كذلك في الساحات أُنساً لروحه التوّاقة لمواساة المظلومين ونصرة المستضعفين. ارتفع صوته النقي، وعلا وجهه الودود، وسجّل مكاناً في كل الأنحاء التي كان يتعفّف سياسيّو “المشروع الإصلاحي” الحضور فيها. كان حثيثاً على تسجيل القناعة الراسخة بأنّ جرثومةً خبيثة بدأت تدبّ في أرض أوال، وأنّ التصدي لها اليوم، وليس غدا، هو المطلوب والواجبُ قبل أن تغرق الأرضُ كلّها في وحل القبيلة المدثرة بلباس العسكر والمرتزقة. كان يعرف النتائج القاسية لذلك، وجرّب مرّات ومرات وحشية القوات وهي تهاجم المعتصمين والمتظاهرين، وكان له نصيب من الملاحقة والاعتقال قبل أن تحلّ عليه المعاناة الكبرى في الأول من أبريل ٢٠١١م حينما هاجمته الوحوش في منزل عديله في بلدة البلاد القديم وبدأت حينها تنفّذ واحدةً من أبشع الجرائم والتعذيب التي طالت رموز الثورة.

سجّل الشيخ المحروس جانباً من تلك المعاناة لتكون وثيقةً للتاريخ ولأوراق المحاكمة الآتية في الدنيا قبل الآخرة، ولكن أحدا لن يتخيّل تفاصيل ما جرى، لأن الفُحش والبغضاء والبشاعة التي أفرغها الجلادون كان بلا حدود، وبما يعجز الخيال عن تصوّره. كانوا يتراقصون وهم يمسكون به يوم اعتقاله. لم يكن معروفا سبب هذا الابتهاج. ولكن حين تبيّن أن الجلاد المراهق ناصر حمد الخليفة؛ كان مصرّا أن يُشارك في “حفلات” تعذيب الشيخ؛ عُرِِف السبب! خُيّل للجلادين بأنهم قبضوا على منْ كان يبحث عنه جلاّد آل خليفة المدلّل، وأن جائزةً ستكون من نصيبهم!

دوائر المعاناة لم تتوقف، وكأن هناك منْ يريد أن يُري المزيد من صمود هذا الرّجل الذي يحاصره المرض وظلام الحرّاس وأنّات شعبه. اعتقلوا ابنه وشقيقه. انتقموا من ابنته التي وُلدت بعد سجنه بأقل من شهر وحرموها من جواز السفر. منعوه من رؤية زوجته التي كانت تئنّ من المرض وما كانت تقوى على زيارته في السجن، ولكنهم امتنعوا مثل الذئاب حتى فاضت روحها إلى السماء، وقد كان مشهد الوداع مليئا بالفجيعة. كان قلب الشيخ لا يتوقف عن الخفقان وهو يتابع أحوال خالته المريضة، وكان مشتاقا أن يراها اشتياق الابن إلى أمّه، وأضرب عن الطعام تعبيرا عن رغبته في إلقاء نظرة عليها وهي في العناية المركزة. ولكنها غادرت قبل أن يلقي عليها النظرة الأخيرة.

على كفّ الشيخ المحروس كُتبت روايات كثيرة عن المعاناة وأسرار الصمود. الجلادون الذين وثّق أسماءهم وأفعالهم السوداء؛ يعرفون أن الشيخ الوقور ليس مُتاحا له الانهيار والجري خلف حبل الاستسلام، ولو طال السرى والأسر. وهم يعلمون أنه لن ينسى الوجوه والأصوات الوقحة في غرف التعذيب، وأنّ الهامة التي ما انتكست ولا انحنت أمام كلّ هذه الأهوال؛ لن تفرِّط في حقها الأصيل، وحقّ الثورة قبل ذلك، في القصاص من المجرمين، الصغير والأمير على حدّ سواء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى