حكايات الضحايا

(البحرين اليوم) تروي حكاية أبي فداء الذي “جنّن الشغب” في بلدة العكر‎

d453f3830976d28ff55d651c59235fbd

الاسم: (مهدي أحمد حسن).
البلدة: العكر.
المشهد: شجاعةٌ مثل الشّمس في وجهِ الرّياح.

سنُطلق على مهدي هنا؛ كنية (أبو فداء)، ولمنْ لا يعرفه.. هو صاحب الاستعراض البهلوانيّ الذي يظهر في هذا الفيديو:

كانت القواتُ تقمعُ في كلّ الاتجاهات. جنونها يجعلها في مهبّ الجنون، أمّا هو فمثلُ الرّواسي التي لا تعبأ بالفئران الصّغيرة.

يُعرف أبو فداء، المعتقل حالياً، بأنّه أحد القيادات الميدانيّة في البلدة. سِمَته وسيماؤه تُختصر في كلمةٍ واحدة: الشّجاعة.
والشّجاعةُ، في قاموس ثورة 14 فبراير، ليست مجرّد الإقدام، والتقدُّم، والذّهاب إلى حيث العدو. ولكنها، أيضاً، تعني النّشاط الذي لا يهدأ، والقدرةَ الدائمة على “إغاظة” العدو، وإفراغ كلّ معنوياته.

أبو فداء، 31 عاماً. متزوّج. أُعتقل في 19 أبريل من العام 2012م. وكانت حالته: مُطارد.

وُلدت بلدة العكر في 14 فبراير 2011م.
لم يكن لها حضور مشهود في انتفاضة التّسعينات، ولكنها في ثورة اللؤلؤة دخلت إلى التاريخ.
تُعرف البلدة بأنّها من أكثر البلدات نشاطاً. تناضلُ في كلّ الأوقات، وتبتكر الوسيلة تلو الأخرى وهي تحفرُ في وجه العدو.

أبو فداء كان أحد الشّبان الذين تولّوا عمليّة الانتقال التاريخيّ للبلدة. أراد، وآخرون، أن يتغيّر موقع البلدة في خارطة البلاد. يقول أبو فداء: “يجب أن تكون بلدة العكر من أنشط بلدات البحرين”. يُرجِعُ رأسه إلى الوراء قليلاً، ويضيف: “يجب أن يرتبط اسم العكر ب(المقاومة)، وليس بأيّ شيءٍ آخر”. وهكذا كان.

في الميدان، كان أبو فداء في المقدِّمة. كان قائداً. الصفوفُ الأولى كانت محجوزة له دوماً. كان يهزء بالقواتِ الخليفيّة التي تُمارس الاعتداء والإجرام ضدّ المتظاهرين. ابتكرَ طريقته في ذلك من خلال الحركات البهلوانيّة أمام القوات. لم يكن أحد يعرف منْ هذا “الشّبح” الذي جعل المرتزقة يركبون جنونهم، ويُطلقون النّار مثل طائش فقدَ حواسّه الخمس.
القوّاتُ كانوا يسرقون كلّ الفرص الممكنة لاعتقاله. استهدفوه بالطلق المباشر في كلّ التظاهرات. أُصيب في بعضِ المرّات، ولكنهم خابوا في اعتقاله.

زواج أبو فداء وشروط العقد

في الثّورة، أكمل أبو فداء نصفه الثّاني. تزوّجَ في 9 مارس 2012م.
لكنّه أبرم مع زوجته عقداً آخر، غير عقد النّكاح.
قال لها: “النضال هو أمرٌ هام في حياتي”. فتحت كلّ عقلها وقلبها إليه، ثم أكمل:
– “لا تستبعدي في يومٍ من الأيام أن يتم اعتقالي، وربمّا قتلي”. ابتسم الزّوجة الصّابرة، وأطلقت في الهواء علامات الرّضا، والافتخار.

بعد زواجه بفترةٍ قصيرة، داهمت القوات الخليفية منزل مهدي. وتحديداً بعد حادثة تفجير العكر. لم تستطع القوات اعتقاله في ذلك.
في 19 أبريل 2012م، رصدت المخابرات الخليفية كلا من مهدي، وعزيز شّرف، وجاسم أحمد حسن، والأخير هو شقيق مهدي الأكبر. كانوا يهمّون بالخروج من بلدة العكر. تمّت ملاحقتهم في الخفاء. اقتنص المخبرون لحظة خروجهم من البلدة، وتم اعتراض سيارتهم، وإحاطتها بالمركبات العسكريّة، وهجموا على الثلاثة.
انقضّ المرتزقة عليهم، وقيّدوهم، ثم رُموا على الأرض، وبدأ مسلسل التعذيب في الشارع العام، وأمام مرأى المارّة. كان المرتزقة يرغبون في تفريغ شحن من الغضب والهستيريا. وبعدها نُقلِوا إلى مبنى التحقيقات الجنائية.

يومان.. والأخبار مقطوعة عنهم. لم يكن سرّاً ما الذي كان يجري لهم خلال ذلك: كلّ أنواع التعذيب. نُقلوا بعدها إلى النيابة العامة، ولُفّقت ضدّهم تهم تتعلق بالتخريب والتجمهر، ورُحلّوا بعدها إلى سجن الحوض الجاف.

لم تنتهِ الحكاية عند هذا الحدّ، وخاصة بالنسبة لأبي فداء.

بعد أيام، أُخذ مهدي مرّة أخرى إلى مبنى التحقيقات. وهناك، تمّ تعذيبه مجدّدا، وهذه المرّة على نحوٍ وحشيّ، وبفارق واسع عن المرة الأولى: نُزع من ملابسه، ووُضع في زنزانة انفراديّة صغيرة، توزّعت البرودة في كلّ زواياها، وتم تعمُّد ضربه بعنفٍ على الرأس. استمرّ تعذيب مهدي طويلاً، هو وآخر من بلدته، وذلك لكي يقرّوا بضلوعهم في “تفجير العكر”. 6 أيام متواصلة من التعذيب الممزوج بالتحقيق.
بعد تلك الأيام القاسية، نُقل مهدي إلى النيابة. هناك أشرف أحمد بوجيري على التحقيق مع مهدي.
أخبره مهدي بأنّه تعرّض للتعذيب. كشف له الآثار التي تصرخ بالعذاب، وأكّد له بأنه تم إجباره على الاعتراف.
بوجيري انحاز إلى الصّف الذي ينتمي إليه، صفّ الجلادين. هدّده بإعادته إلى غُرف التعذيب في حال غيّر أقواله أو أنكر ما جاء في الاعترافات التي أُنتزعت تحت التعذيب.
أُجبر مهدي على تمثيل صناعة المتفجرات، وأُقتيد إلى منطقة سكنه في بلدة العكر، وتصويره هناك.
وُجّهت إلى مهدي تهم عديدة، ومنها:
1- تجمهر، وأعمال شغب، وحرق جنائي. وحُكم عليه في التهمتين بالسجن 5 سنوات.
2- اعتداء على دورية. وقد حُكم عليه بالسجن 10 سنوات.
3- تفجير العكر، وقد حُكم عليه بالسجن 15 سنة.
30 سنة هو مجموع الأحكام بحقّ أبي فداء.

صورة المعتقل مهدي في المحكمة الخليفية
صورة المعتقل مهدي في المحكمة الخليفية

حينما نطق القاضي بالحكم، وقف مهدي شامخاً. رأسه مرفوعة نحو العزّة والفداء، وبدأ يكبّر، وهو يقول: “ويلٌ لقاضي الأرض من قاضي السّماء”. كانت كلماته مثل الصّاعقة، ولم يتحمّل القاضي آثارها، فأمر بإخراج مهدي إلى خارج القاعة، إلا أن مهدي أراد أن يُسجّل رسائله كلّها، فرفع صوته، وهو يُجرّ إلى الخارج، وقال:
– “ثابتون.. وصامدون، وسوف نواصل المسير”.

يواصل أبو فداء مسيرته إذن. ليس وحده، ولكن إلى جنب اثنين من أشقائه أيضاً. إبراهيم، المحكوم 10 سنوات، وجاسم المحكوم 5 سنوات.

زوجة مهدي: الفداء يجمعنا

زوجة مهدي فتحت بعض ذاكرتها إلى (البحرين اليوم). وهذه روايتها:
بعد زواجي من مهدي، وبفترةٍ قليلة، تم اعتقال أخي. كنّا لا نعلم عنه أيّ شيء. القلقُ خيّم عليّ نتيجة ذلك. وبعد مرور أيّام، تمّ السّماح لنا بزيارة أخي بعد مرور أيام في سجن الحوض الجاف. توجّهت مع عائلتي للزيارة. كنتُ فرحةً، إلا أن القلق يتقدّمني أيضاً، حيث لم أكن أعلم بأي حال سيكون. إلا أن القلق كان ينبعُ من مكانٍ آخر. فقبل وصولنا إلى السّجن، جاءني اتصال من أحد الأقرباء، وأخبرني بالخبر الأليم.
– “لقد اعتقلوا مهدي. تم محاصرته من قبل المرتزقة مع أخيه الأكبر وصديقه. اعتقلوهم عند مشارف البلدة”.

تضيف زوجة مهدي:
أحسستُ أنّ الدّنيا توقّفت. لم أكن أستوعب ما يدور حولي. ما الذي حدث؟ أو ماذا يحدث الآن؟
لقد ألمّ بي تعبٌ شديد. كانت صحّتي في تدهور متواصل، ونفسيّتي كانت في أسوأ حالاتها.
كنت في التاسعة عشر من عمري. عروس جديدة، وللتّو بدأت حياتي الجديدة. كانت الأحلامُ أمامي. أبنيها طوبةً بعد أخرى. ولكنهم هدموا كلّ شيء، وسلبوا منّي طعم الهناء، والراحة. لقد دمّروا كلّ شيء.
أنا أدرس في الجامعة. في سنتي الأولى. بسبب الضيق الذي يكتم أنفاسي، ويُحاصرني، فقد ساءت دراستي، واضطررت للانسحاب من الجامعة، حيث لم أستطع إكمال الدراسة.
الأول من مايو 2012م كان تاريخاً هاماً. كان موعد أوّل زيارة لزوجي مهدي. كان التلهّف يستولي على كياني. رؤيته كانت حلماً يشغلني كلّ الوقت. إلا أنّ الصّدمة كانت أولى المشاعر التي اشتعلت أمامي في الزيارة. كان نحيفاً جداً. التعبُ والإرهاق بدا عليه. خزّان التعذيب كان واضحاً عليه.

أعدُّ الأيام، وأحسبُ السّاعة والدقيقة وأنا أنتظر موعد كلّ زيارة.

هل أنا نادمة لزواجي من مهدي؟

لو يعود الزّمان إلى الوراء، لفعلتُ الذي فعلته اليوم. لن أتردّد في الاقتران بهذا الرّجل، ولو كنتُ عارفةً، مسبقاً، بأنّه سيُزجّ به في السّجن ثلاثين عاماً.
أنا فخورة بك يا مهدي. أرفع رأسي كلّما نُطق باسمك. أفخر بك لأنّك معتقل من أجل قضية حقّ، ومن أجل أن ينال هذا الشّعب حقوقه العادلة. فخورة بك لأنّك وضعت كرامة الشّعب في خط موازٍ مع كرامتك. فخورة بك لأنك نظرتَ إلى الأجيال القادمة، قبل أن تنظر إلى نفسك. ومثلُ هذا لا يفعله إلا عظيم، مثلك.
رسالتي إلى الجميع، هو ألا نسمح لليأس بأن يتسلّل إلينا. الاستمرار في الحراك، والمواصلة على المطالبة.. هو الطريق الذي لا نحيد عنه. وإسقاط النّظام هو البوصلة التي تُحدّد هذا الطريق. دماءُ الشهداء شمسنا في هذا الطريق. والمعتقلون والمهجرون، والمفصولون، والمصابون، والمطاردون، هم زادُنا وصوتنا وسواعدنا لإكمال الطريق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى