مقالاتنادر المتروك

في يوم المعلم: تلامذتي المعلمون

نادر المتروك - كاتب صحافي - بيروت
نادر المتروك – كاتب صحافي – بيروت

البحرين اليوم – (خاص)

في يوم المعلم، ليس هنالك من ذكرى أفضل من تلامذةٍ أصدقاء.

يُعطيك التّلميذُ أفضلَ ما لديه حين تُعطيه الأفضل. والأفضلُ هنا هو العطاء، ذاته، أيّاً كان.

أقرّ بأنّ مهنة التّعليم، كما مارستُها، هي التّجربةُ الوحيدةُ التي يسّرتْ لي اكتشاف معنى العطاء. المسألةُ، مع بعضِ التّعديل، لها علاقة بقدرة المعلّم على التّواصل مع الذّواتِ التي يلتقي بها يوميّاً، على أن يجعلَ كلّ يومٍ معها بمثابة اللّقاء الأوّل.

ينتظرُ التّلميذُ شيئاً جديداً من إطلالةِ المعلّم. حين يجد منه التّكرارَ، أو إحضار نموذج “المربّي”؛ فإنه يبدأ بالتملّل، أو المشاغبة أحياناً.

يتحمّس التلاميذ لحقيبةِ المعلّم. يتحفّزون لرؤيةِ أسرارِها، ويعدّون الثّواني لمجيء اللّحظةِ التي يُفصحُ فيها المعلِّمُ عن بعض الأشياءِ المكنونة. المفاجأةُ هنا هي “استهلالُ” الدّرس. يمكن للمعلمِ أن يأتي بها من كلّ مكان. من الشّارعِ. من مشاهداته قبل دخول الفصْل. من يوميّات المعلّمين، ومن كواليس “الطابور الصّباحي”، سيء الصّيت!

في إحدى المرّات، أقبلَ طالبٌ جميلٌ، اسمه “حسين جميل”، وكأنّ وجهه امتلأ بالسّؤال، ولكنّ جمال هذا الطّالب وخُلقه؛ كان يمنعه دوماً من جرأة إطلاق الأسئلة. خيّلَ لي، كثيراً، إنه كان يُراعي عدم إحراجي، فلا يسألُ، ويُفضِّل بدلاً من ذلك أن يُصغي إصغاء الكبار: يلتقطُ كلّ شاردةٍ وواردةٍ، ويجمعها في خيوط الكتابة التي يُجيدها، لأراها مكتملةً مثل الشّمس في دفتر الإنشاء. كان هناك أكثر من خيار لديّ. إما أن أوقظ إصغاءه الذكيّ، أو أُشْعِل نيران الأسئلة المكتنزة فيه حتّى تخرج إلى الفضاء. كانت تلك من الحالات النّادرة، وخاصة لمنْ لا يزال في سنّ الإعداديّة.

فتحَ هذا الطّالب فيّ فكرةً عميقةً حول السؤال، والإصغاء. أو بمعنى آخر: حول النّقد، والملاحظة. أيّهما يأتي أولا. وأيهما أنفع للطالب. وأيهما علامة نجاح المعلم في تلاميذه.

لم اكتشف الجوابَ بعد. لا جواب يُشفي غليلَ الأسئلة، ولا جواب بقادرٍ على إعطابِ ذلك الغموض الذي يجتاحُ المعلّمَ حينما يُنهي الحصّةَ وهو مطمئنّ لأحواله، انبساطاً وانقباضاً، مع تلاميذه. القدرُ الشّافي من الجوابِ أجدُه في ذكرى أولئك التّلاميذ الذين كُتبوا شهداءَ، أو كبُروا قبل ميعادِهم وأضحوا أبطالاً؛ تعرِفهم نافذةُ الزنازين الضيّقة، وتحفظُ أصواتِهم الهدْأةُ المخيفةُ التي تعقب وجباتِ التعذيب. أذكرُهم، واحداً واحدا، كما أذكرُ ترتيبَهم في قائمةِ الأسماء التي أسْردُها بدايةَ الحصّةِ لأسجّلَ الحضورَ والغياب. كانوا حاضرين عنديّ. حضورُهم أقوى من غيابي عن الوعيّ حين ينزلُ خبرُ أحدِهم عليّ: شهيداً، جريحاً، أو معتقلا.

حضورُهم، اليوم، أقوى.. وأنا غائبٌ عن الدّار التي كانت تقلّنا سويّةً نحو الأحلام. أصغي لأسئلتهم، وأتعلّم من غيابهم، وكأني في يومي الأول من التعليم.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى