ما وراء الخبر

ذكرى استقلال البحرين: ماذا عن استبدال علم الاحتلال البريطاني؟

 

البحرين اليوم – (متابعات)

يبدو النظام الخليفي في البحرين، أو بتعبير أدق منظومة الحكم فيه؛ غير مكتفٍ حتّى الآن بقوّته الذاتية، أو بالشروط الداخلية لإنجاز استقلاله الخاص، أي تحرُّره من القوى الخارجيّة. يستند هذا القول على الأطرحة التي تذهب إلى أن منظومات الحكم، في فترة ما بعد موجة الاستقلالات العربيّة، اشتغلت بمستويات مختلفة على اقتناص كلّ ما من شأنه أن يُعزّز المنظومة الحاكمة المفروزة بعد الاستقلال، سواء من خلال ترسيخ بعض قواعد المقبولية الشعبيّة، أم عبر توسيع نطاق الحكم الاستبدادي المحلي.

بالنسبة لآل خليفة؛ فإن البحث عن المشروعية من قبل الشعب لم تكن تتجانس مع البنية التي شكّلت هويتهم التاريخيّة، باعتبارهم قبيلة لا تستريح بعيداً عن ثقافة الغزو والسّلب والامتلاك المنفرد لكلّ شيء، بما في ذلك الناس وحرياتهم الشخصيّة. ولذلك لم يستطع الخليفيون الصّبر طويلا على تجربة برلمان ٧٣ ودستور ما بعد الاستقلال، وحصل الإنقلاب الأول في ١٩٧٥م، وأدخلوا البلاد في حقبة أمن الدولة برعاية بريطانيّة كاملة، هذا الراعي الذي سيظل هو “الرّابي” الرئيس الدائم وشبه الحصري لآل خليفة.

ما حصلَ من أحداث في السنوات الأولى لما بعد استقلال البحرين (أغسطس ١٩٧١م)؛ سرعان ما انغرسَ بشكل عميقٍ في المدار الذهني لآل خليفة، وأثّرت تفاصيلُ الأحداث آنذاك على “نظام الأفعال والتوقّعات” الموروث لهذه القبيلة التي استعصت، حتى الآن، على أن تنخرط في الخارطة المحلية، بما تمثله هذه الخارطة من مكوّنات شعبية وانتماء هوياتي لتاريخ الأرض وأهلها. وليس ذلك ببعيدٍ عن السّمة الضديّة التي يتعارك عليها الخليفيون اليوم في الداخل والخارج، وهي سمة الاستقواء بقوى الهيمنة الخارجيّة، وهو ما يفسّر الإنفلات الخليفي الدائم نحو الخارج، ليس فقط لأنّ قبيلة آل خليفة أصلاً أتت من خارج هذه البلاد، ولكن أيضاً لأنها لم تتصالح مع تاريخ هذه البلاد وثقافتها مصالحةً تعاقديّة وكاملة ودائمة، وهو ما يدفعها دفعاً للاستخفافِ بهذا التاريخ والثقافة والتطاول عليها بالتشويه والإلغاء والاستبدال.

الارتماء في الخارج

من غير شعور بالقصور أو الدونيّة، يلتحق الخليفيون بآل سعود، وفي خط موازٍ لا يحيد عنه أبداً. وهم يتمنون الولاء للولايات المتحدة بكل السّبل، لولا أن في واشنطن آليات في الحكم تجعل القائمين على إدارة البيت الأبيض سريعي التبدُّل وتغيير السياسات. ويرمي الخليفيون أنفسهم في الخارج بحثاً عن كلّ ما يمكن أن يعوِّض نقصهم، أو يزيد في رقعة الأمراض المسلّية التي تميّز الحالة الخليفية، فمع إسرائيل يسدّدون شطراً من مديونيّة التشابه مع الصهاينة في مقت السكان الأصليين، وفي روسيا يمكن أن يجد آل خليفة فرصا لتفريغ المراهقات الصبيانيّة، في حين يرون في الفلبين وتايلند وماليزيا أماكن آمنة لتخزين الثروة وملاذاً ممتعاً للأُنس بها. وهكذا مع مصر التي اكتشف حمد عيسى في منتجعاتها السياحيّة ملاجيء مناسبة للترويح عن النفس، ومنطلقاً لاستعراض فُتُونه بالنياشين وبابنيْه المدلّلين.

في بناءِ العلاقات الخارجيّة بين الدّولتين يوجد هناك خطّ متصل وآخر منفصل. لابد أن يكون هناك اتصال بين الدولتين، وانفصال في الوقت نفسه، لكي تُبنى العلاقات بينهما وفق نسيجٍ واضح. ليس بالضرورةِ أن يكون هذا النّسيج متيناً أو مسنوداً على تفاهماتٍ دائمة أو مصالح كليّة أو رغبة حقيقيّة في إنتاجِ تكاملٍ منتِج في العلاقات، ولكن المطلوب أن يكون هناك نسيج واضح، أي تفاهم واضح وضروري. وهذا لا يتوفر في النظام الخليفي إلا مع البريطانيين، وبدرجة أقل بقليل مع آل سعود.

في الداخل، وتحت ظلّ مشروع إسقاط النظام ومواجهة “الاحتلالات” في البحرين؛ سيكون مطلوباً من احتفالات الاستقلال والتحرُّر أن تشتغل على تفاصيل وأشكال بناء الهوية الوطنيّة، ولعل ابتكار العلم الوطني الجديد الذي يقطع العلاقة بالموروث البريطاني من جهة، وبالموروث الخليفي من جهة أخرى؛ هو إحدى المهام غير المنجزة حتى الآن، تماماً كما هو عدم إنجاز الدولة الوطنية في البحرين، التي تتابع في تعثر متواصل منذ تدهور التجربة “الدستوريّة” الأولى والقصيرة بعد الاستقلال عن بريطانيا.

نويدرات: من راية العز.. إلى البراءة من علم الاحتلال

١

في صباح يوم الجمعة ٣٠ ديسمبر ٢٠١١م، نفذ شبّان غاضبون يرتدون الأكفان في بلدة نويدرات عملية حملت عنوان “راية العز” (شاهد الفيديو: هنا). سيُصبح لاحقاً هذا العنوان مقترناً باسم البلدة التي تُوصف في أدبيات الاصطلاح الشعبي، بعد ثورة البحرين، ببلدة “راية العز”. شكّلت هذه العملية باكورة التغيير الميداني في عمليات الاحتجاج التي شهدتها البلاد بعد مرحلة قانون الطواريء (يونيو ٢٠١١م)، ونظرا لما انطوت عليه من إقدام لافت، وتقدُّم ثوري تجاه القوات الخليفية المتمركزة عند دوار البلدة، وفرار المرتزقة الذين بدوا كالفئران؛ فقد تحوّلت هذه العملية إلى “مصدر إلهام” بين عموم المجموعات الثورية في المناطق، وفتحت الطريق لعمليات جريئة مماثلة فيما بعد.

في هذه العملية رفع منفذو العملية علم البحرين تعبيراً عن الولاء للوطن، وترميزا لإظهار السيطرة على الدوار، حيث رفرف العلم وسط “ساحة” المواجهة ليؤكد الانتصار على المرتزقة الفارين.

٢

بعدها، تعمق هذا الارتباط “الثوري” بالراية، وأخذت تندمج معها معاني التحدي والمواجهة، ترسيخاً للدلالات التي ارتبطت بعملية “راية العز”: أي دلالة العلم “الثوري” المرتبط بالأكفان، والمواجهة الجسورة في الميدان. وقد تكون العملية “الرمزية” التي نفذها شابان من البلدة تحت عنوان “بالأكفان راية العز تُصان”؛ خير تعبير عن هذا الفهم الذي ساد في عموم البلاد آنذاك. (شاهد الفيديو: هنا) في هذه العملية، ينطلق شابان يرتديان الكفن بعد أن قبّلا المصحف الشريف من يدة سيدة بحرانية، ويتوجهان بثقة نحو دوار البلدة، لينصبا العلم أمام قوات المرتزقة التي بدت في حال من الدهشة أمام هذا المشهد. وأخذ المرتزقة يطلقون الغازات السامة باتجاه الشابين، مع تسمُّرهم في مكانهم وهم محاصرين بتوقُّع أن يحدث شيء آخر، ولكنه لا يحدث!

بعد عام على ذلك، بدأت رويدا رويداً تتراجع “البنديرة البريطانية” من احتجاجات البلدة. وفي ٣١ أغسطس ٢٠١٢م، تم تدشين “قسم إسقاط النظام” في استعراض خاص حضرت فيه الراية بشكل محدود مع تكثيف الرايات الأخرى (رايات الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب) التي ستحلّ، بعد ذلك، محل العلم الرسمي نهائيا حينما يُعاد بشكل كامل الوصف التاريخي للراية باعتبارها “علما للاحتلال. (شاهد الفيديو: هنا)

٣

بعد تدشين قسم “إسقاط النظام”؛ نشر ثوار بلدة نويدرات بيانا تحت عنوان “مشروع البراءة من علم الاحتلال”، أكد بأن إسقاط أي نظام لابد أن يكون مصحوبا بإسقاط الراية التي ترتبط به، كما جدّد التذكير بأن “العلم الأحمر” هو علم الاحتلال البريطاني والذي ارتضاه الخليفيون، وليس له صلة بتاريخ أوال. كما أوضح البيان بأن آل خليفة لم يحذوا حذو دولة الكويت والإمارات بتغيير العلم بعد الاستقلال، ليُثبتوا بذلك أنهم امتداد للاستعمار البريطاني “وهم ليسوا إلا عملاء للاحتلال لا أكثر”، كما جاء في البيان. وبناء على ذلك، أعاد ثوار البلدة صياغة المشهد السابق الذي تعهدوا فيه بالدفاع عن العلم الأحمر بالأكفان، وتم استبداله هذه المرة براية الإمام الحسين بن علي. (شاهد مونتاج البراءة من علم الاحتلال: هنا)، وتُوّج ذلك، ميدانيا، بعملية أُريد لها أن تكون موازية لعملية “راية العز” من حيث “ثوريتها” وتناسبها مع الراية الجديدة، حيث نُفذت في ٢٢ ديسمبر ٢٠١٣م عملية “رايات الحق” التي ارتفعت فيها رايات الإمام الحسين. (شاهد الفيديو: هنا) ومنذ ذلك التاريخ، لم يُرفع علم البحرين الرسمي في نويدرات، واعتاد الأهالي بعدها على رفع الرايات البديلة، وخاصة رايات القصاص الحمراء وأعلام الإمام الحسين.

البنديرة البريطانية: رمز الهيمنة والاحتلال

من المعروف تاريخياً حقيقة “العلم الأحمر” أو البنديرة البريطانية، الذي تم فرضه بريطانيّاً على المشيخيات في الخليج بعد معاهدة الانتداب في العام ١٨٢٠م، وكانت عنواناً على خضوع هذه المشيخيّات للاستعمار البريطاني. وقد ترك البريطانيون للمشيخيات حرية محدودة بإضافة أسماء أو علامات وسط العلم الذي جرى تعميمه عليها، إلى أن انسحب البريطانيون ونالت دول الخليج استقلالها في العام ١٩٧١م، حيث اختارت هذه الدول أعلاما خاصة بها، وحافظ بعضها على إضفاء ما يُعرف بالألوان العربية على علمها.

إلا أن الخليفيين في البحرين كانوا حريصين، أكثر من غيرهم، على الاحتفاظ بموروث الاستعمار البريطاني، ولم يُجروا تغييرا على العلم الأحمر إلا بشكل محدود، وبحسب تغيّر حاكمها. “ولهذا صار للبحرين أربعة أعلام خلال فترة خمسة وخمسين سنة. علمٌ قبل ١٩٥٧  وعلمٌ في ١٩٥٧ وآخر في  ١٩٧١ ثم آخر في ٢٠٠٢. وهي أعلام تختلف في تفاصيل صغيرة، ولكنها  تلتزم جميعاً باللونيْن الأحمر والأبيض اللذيْن فرضتهما بريطانيا في عام ١٨٢٠“. (مدونة عبد الهادي خلف، البنديرة البريطانية والعلم الملوكي).

يؤكد الباحث البحراني عبد الهادي خلف أن هناك مشكلة قائمة في نوع العلم الراهن للبحرين، ويشير إلى أن هناك “تفويتا مقصودا” في استبدال العلم بعد نيل البحرين الاستقلال في العام ١٩٧١م، ويؤكد أن هناك إصرارا خليفيا في الإبقاء على البنديرة البريطانية وعدم التفكير الإنفرادي أو الجماعي في صناعة علم خاص بالاستقلال. ويرى الدكتور خلف بأن هذا الإصرار هو ذاته ما يُفسّر عدم اعتراف آل خليفة بعيد الاستقلال وامتناعهم عن الاحتفال الرسمي به، “فالسلطة تفعل كلّ ما تستطيع كي لا يكون للبحرين ما يجمع أهلها على اختلاف نحلهم وأهوائهم وطبقاتهم“.

1530393_332356923571876_381066359_n

لا شك أن هناك مشاعر “دفينة” من التناقض يلمسها الكثيرون حينما يرفع البحرانيون هذا العلم الأحمر، ولاسيما حينما يكون هذا العلم مرفوعات في ساحات نقضية أو متحاربة: ساحة المعارضة ومناطق الاحتجاج الثوري، وساحة الحكم الخليفي والموالين له. وهي ملاحظة أضاء عليها الكاتب البحراني محمد حميد السلمان في مقال بعنوان: “«البنديرة» إنجليزية.. والآمال بحرينية” منشور بصحيفة (الوسط) بتاريخ ٢٨ يوليو ٢٠١٢م، حينما لاحظ هذا التباين المزاجي و”الدلالي” لرافعي هذا العلم، رغم أنه في النهاية يمثّل أهم رموز السيطرة البريطانية في الخليج خلال حقبة ما قبل الاستقلال.

غير أن معالجة هذا الالتباس لم تؤخذ بجدية “حاسمة” على غرار ما فعله ثوار نويدرات، وما تلى ذلك من حملات إعلامية على مواقع التواصل الاجتماعي لتغيير العلم و”البراءة من علم الاحتلال”، حيث صدرت بيانات باسم البلدات البحرانية تأييدا لهذه الحملة، كما طرح بعض النشطاء بدائل لهذا العلم. وكان من اللافت أن القوى الثورية المعارضة – التي خطت خطوة متقدِّمة بالانضام ضمن تحالف مشترك تحت عنوان “التحالف من أجل الجمهورية” وذلك بعد إعلانها على لسان القائد المعتقل الأستاذ حسن مشيمع في دوار اللؤلؤة بتاريخ فبراير ٢٠١١م؛ رفضها لشكل الحكم الملكي السائد في البحرين، والعمل من أجل نظام جمهوري ديمقراطي في البلاد، إلا أن هذه القوى – التي تقود احتفالات البلاد بعيد الاستقلال اليوم – لم تتجه بجديّة أكثر نحو التوافق على تفاصيل هذا النظام الجمهوري، بما في ذلك النشيد الوطني والعلم الجديد. وفي حين قد يجد البعض ذلك “تفاصيل شكلية” ليس هذا وقتها، فإن هناك منْ يدعو لتجنّب الخوض في هذه التفاصيل التي ستؤدي حسب رأيه لمزيد من تفتيت الداخل البحراني، لاسيما وأن المعارضة السياسية، والواقع الشعبي المعارض اليوم، لازال متمسكاً بالعلم الأحمر، وهو يحظى بانتشار طبيعي رسّخته العاطفة الوطنية الموروثة.

إلا أن هناك منْ يرى أن الأمور اليوم، وبعد أكثر من ستّ سنوات على ثورة ١٤ فبراير، باتت مناسبة بامتياز لإعادة النظر والبحث والتنظير في هذا الموضوع، لاسيما وأن “البراءة” الشعبية من النظام الخليفي، ومن كلّ رموزه ومتعلقاته، باتت أكثر رسوخاً، وأن المبررات الواقعية لهذه “البراءة” ماثلة للعيان مع توغّل آل خليفة في استهداف السكان الأصليين، وجوداً وديناً وتاريخاً، وبمعونة سياسية وأمنيّة وعسكرية من بريطانيا. وهي لحظة مؤاتية، من الناحية السياسيّة على الأقل، لإنتاج موقف سياسيّ ورمزي يُضفي على الاحتفاء بعيد الاستقلال نكهةً حقيقيّة، وعبر إنهاء تلك الإزدواجية المريرة التي لا تزال تحوم في أوساط الناس والمعارضة على حدّ سواء، والتي يختصرها الاعتزاز الصادق وإعلان الفداء والشهادة تحت راية كان ترفعها المشيخيات وهي تؤدي مراسم الطاعة والخضوع للمستعمر البريطاني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى