مقالات

نصُّ ديمقراطية تساوي استبدادا كاملا

 

البحرين اليوم – (خاص)

باقر المشهدي

كاتب متخصص في شؤون الخليج

بقدر ما يُساء فهم الحياة وطبيعة الاستفادة منها، يحدث أيضا أن يُساء فهم الديمقراطية. الديمقراطية التي يكثُر الحديث عنها عندنا هنا، ويكثر الحديث عن نهايتها في مهدها؛ ليست شقّا واحدا وليست مسارا خاصا بالحرية لكي يطمئن البعض إلى أن الديمقراطية محققة بتحقُّق حرية الكلام و”الحكي”. صحيح أن الحرية ركن أساسي من أركان الديمقراطية، إلا أن الحرية من دون الارتكاز على العدالة والمساواة في التمثيل؛ لا تعني سوى عملية تشويه مأثومة للديمقراطية، ومحاولة جرفها في مستنقعات الحكي الزائد.

لسنواتٍ طويلة؛ ظلت الديمقراطية تروّج لنفسها بوصفها بضاعة رائجة يمكنها أن تعيد صياغة المجتمعات وتحقق رفاهيتها. بقصد أو بدون قصد؛ كان الساسة الدعاة  – من المعارضين وبعض النخب السياسية والثقافية – يبشّرون بمجتمع مثالي إذا ما تمّ تطبيق الديمقراطية في مجتمعنا، ولأن اقتصاد المعرفة لدينا هو اقتصاد يقوم على مفهوم الندرة وليس الكثرة؛ لذلك فإن الديمقراطية أتت مكتفية بعمود واحد هو الحرية وفقط، ظنّا من الدعاة أن الحرية كفيلة بتحقيق باقي البنود. بعد عقود طويلة من العذاب والألم وطحن السياسة؛ استجابت بعضُ النخب الحاكمة لدعوة الديمقراطية، ولعلم تلك النخب بحقيقة الديمقراطية، بحكم هيمنة المركز وهامشية الأطراف؛ لم تكلّف النخب الحاكمة نفسها سوى أن دعت المعارضين ودعاة الديمقراطية إلى عرض بضاعتهم، وبالفعل عرض الدعاة ديمقراطيتهم القائمة على الحرية فقط، وتناسوا ركن العدالة، أو إنهم أغفلوه لضيق الوقت واستجابةً لهول صدمة الاستجابة، لتستجيب ستجابت تلك النخب العتيدة سياسيا والمعمِّرة على كرسي الخلافة؛ لمطالب الدعاة.

المقاومة بالحيلة ليست من صفات المحكومين فقط، بل هي سياسة يتبعها الحكام أيضا متى ما وجدوا في بضاعة المعارضين ما ينقص من صلاحياتهم وسلطتهم، وعلى قاعدة “خذ وطالب”، وقاعدة أخرى أشد بطشا مثل قاعدة “أعطيك اليوم وأعطيك غدا”؛ عُقدت مصالحات بين النخب الحاكمة ودعاة الديمقراطية، وكأن الأمور هي منّة وتفضُّل من قبل النخب الحاكمة على المحكومين وعلى الدعاة المعارضين الذين يتوجّب عليهم تقديم البيعة والولاء المطلق، خصوصا وأن الحاكم قد أمر بالديمقراطية!

لم يفكر الدعاة المعارضون لحظةً لماذا تصرّ النخب الحاكمة على البقاء في سدة الحكم، وتظل مشرفة على مشاريع إدخال الديمقراطية. ربما فكروا، لكنهم ظنوا أنهم سيأخذون الحكم لاحقا أو غدا. بضاعة الدعاة رُدّت إليهم بائرة، وجلبت الخراب! فالديمقراطية المجلوبة لم تكن سوى انتخابات ومؤسسات وهياكل فارغة المضمون، وأبصر الدعاة المعارضون أنهم بعيدون كثيرا عن كرسي الحكم، وعن التمثيل في المؤسسات، لا لشيء سوى أنهم عرضوا بضاعتهم ناقصةً وخالية من العدالة والمساواة، مكتفين بحرية الكلام وحرية الحكي من دون تربص. ولا لشيء أيضا سوى أن النخب الحاكمة كانت أكثر إتقانا للمقاومة بالحيلة، وبدلا منْ أن يهمس المحكوم من خلف الحاكم؛ همس الحاكم في أذن المحكومين، وقال: لقد فزتُ بالديمقراطية وخسرتم بالديمقراطية، وهناك جولات قادمة لنتنافس فيها”!

وجد الدعاة أنفسهم أمام قوانين انتخابية مفصلة تماما، بحسب إرادة النخب الحاكمة، لذلك فلا يصل إلى المؤسسات السياسية إلا نفر قليل من الدعاة والباقي من الحاشية. وجد الدعاة أنفسهم أمام سلطات تشريعية ناقصة، وكأن طيور الغربان تحلق فوق رؤوسهم. ليس ما حدث بعيدا جدا عن تنبؤات محققي الديمقراطية في الغرب العتيد، فواحد منهم على الأقل كتب منذ سبعينات القرن الماضي أن “الديمقراطية بلا عدالة ما هي إلا كتلة من الإجراءات الناقصة وهي خداع وتضليل”. جون وارلز الذي أسّس نظرية العدالة والإنصاف؛ كان محقّا في ذلك، وبعد سنوات من طباعة كتابه عادَ مستدركا لشرح العدالة السياسية باعتبارها مخرجا أساسيا ووحيدا من هشاشة الديمقراطيات القائمة، إلا أن الدعاة السياسيين لدينا والنخب الثقافية صاحبة الوكالة الحصرية في اقتصاد المعرفة؛ لا تزال تصرّ على أن الديمقراطية هي الحرية. المشهد المؤسف وسط هذه الدوامة؛ هي أنْ تنهض نخب مستجدة سياسيا ولتشرعن ما جرى، وتحاول إقناع الناس أن الأفضل هو الممكن، ولن يحدث شيء ممكن غير الذي يحدث أو حدث!

الخطأ يكرر نفسه بين فترة وأخرى، بالأخص في فترات الإحباط والشعور بالوهن، فتارة يضغط الدعاة على قبول ما يُعرض عليهم، مهما كان ثمنه، مقابل كلفة غالية دفوعها في السجون والمنافي والتعذيب، وتارة أخرى تكون النخب الحاكمة واعية بالأوراق الخلفية، فتطرح مشاريع سياسية فارغة من المحتوى، لكنها مغلفة بالشكولاتة السياسية، فيطمع فيها البعض وهماً أو تزلّفا أو غيرها من أعراض الوهن السياسي. وعلى هذا، يمكن قياس توجّهات بعض الدعاة إلى التطبيع مع الأنظمة وقبول الممكن المحدَّد لهم سلفا.

الخلاصة، ليس خطأ النخب الحاكمة وحدها إنْ هي تصالحت على ما عُرض عليها، لكنه خطأ الدعاة والسياسيين عندما بتروا عرضهم ونسوا تكملة المشهد، فجاءت مسرحية الديمقراطية ناقصةً وغير مكتملة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى